للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ وَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا، إِذَا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهْرَ كُلَّهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ:

الْطَّمُ طَمُّ الْبِئْرِ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الْكَبْسُ، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا حَتَّى يُسَوِّيَهَا، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَكْبُرُ حَتَّى يَعْلُوَ قَدْ طَمَّ، وَالطَّامَّةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى مَا سِوَاهَا وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: فَوْقَ كُلِّ طَامَّةٍ طَامَّةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ:

أَصْلُ الْطَّمِّ الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ، وَكُلُّ مَا غَلَبَ شَيْئًا وَقَهَرَهُ وَأَخْفَاهُ فَقَدْ طَمَّهُ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الطَّامِي وَهُوَ الْكَثِيرُ الزَّائِدُ، وَالطَّاغِي وَالْعَاتِي وَالْعَادِيُّ سَوَاءٌ وَهُوَ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، فَالطَّامَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ دَاهِيَةٍ عَظِيمَةٍ يُنْسَى مَا قَبْلَهَا في جنبها.

[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الطَّامَّةِ الْكُبْرَى الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيُّ شَيْءٍ هِيَ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ مَا يُنْسَى مَعَهُ كُلُّ هَائِلٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عِنْدَهَا تُحْشَرُ الْخَلَائِقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الطَّامَّةَ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَالطَّامَّةُ تَكُونُ اسْمًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وقت قراءة الكتاب على ما قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٣] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ هِيَ السَّاعَةَ الَّتِي يُسَاقُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يَعْنِي إِذَا رَأَى أَعْمَالَهُ مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِهِ تَذَكَّرَهَا، وَكَانَ قَدْ نَسِيَهَا، كَقَوْلِهِ: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٦] .

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَرى أَيْ أَنَّهَا تَظْهَرُ إِظْهَارًا مَكْشُوفًا لِكُلِّ نَاظِرٍ ذِي بَصَرٍ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ فِي كَوْنِهِ مُنْكَشِفًا ظَاهِرًا كَقَوْلِهِمْ: تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ «١» .

وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا بُرِّزَتْ لِيَرَاهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ وَبَصَرٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَرَوْنَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّهَا مَكَانُ الْكُفَّارِ وَمَأْوَاهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ:

٧١، ٧٢] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: ٩٠، ٩١] فخص الغاوين بتبريرها لَهُمْ، قُلْنَا: إِنَّهَا بُرِّزَتْ لِلْغَاوِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهَا أَيْضًا فِي الْمَمَرِّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.


(١) هذا شطر بيت حرف لفظه وبقي معناه وصوابه: قد وضح الصبح لذي عينين.

<<  <  ج: ص:  >  >>