للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ.

وأعم أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْآفَاقِ فَجَرَى هَاهُنَا عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ وَذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَبَدَأَ بِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ. فَقَالَ:

[[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٤]]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)

الَّذِي يَعِيشُ بِهِ كَيْفَ دَبَّرْنَا أَمْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْضِعُ الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الْإِنْسَانُ لَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَتَّى يَدْخُلَ ذَلِكَ الطَّعَامُ فِي الْوُجُودِ وَالثَّانِيَةُ: مُتَأَخِّرَةٌ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، وَلَمَّا كَانَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ لِلْحُسْنِ «١» وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ الْخَلْقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ وَالشُّبْهَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبْتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَطْرِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَرْضِ، فَالسَّمَاءُ كَالذَّكَرِ، وَالْأَرْضُ كَالْأُنْثَى فَذُكِرَ في بيان نزل القطر. قوله:

[[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٥]]

أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥)

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: صَبَبْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَيْثُ، ثُمَّ انْظُرْ فِي أَنَّهُ كَيْفَ حَدَثَ الْغَيْثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، وَكَيْفَ بَقِيَ مُعَلَّقًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ غَايَةِ ثِقَلِهِ، وَتَأَمَّلْ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، حَتَّى يَلُوحَ لَكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ نُورِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي تَدْبِيرِ خِلْقَةِ هَذَا الْعَالَمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (إِنَّا) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّا بِالْفَتْحِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّقْدِيرُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنَّا كَيْفَ صَبَبْنَا الْمَاءَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّا كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ كَمَا أن قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الأنفال: ٧٤] تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ، وَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَشْتَمِلُ عَلَى كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَةِ:

٢١٧] وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: ٤، ٥] . قوله تعالى:

[[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٦]]

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)

وَالْمُرَادُ شَقُّ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النَّبَاتِ: أَوَّلُهَا: الْحَبُّ: وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:

[[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٧]]

فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)

وَهُوَ كُلُّ مَا حُصِدَ مِنْ نَحْوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذلك لأنه كالأصل في الأغذية.

[[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٨]]

وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)


(١) في الأصل (أظهر للجنس) ولعل ما ذكرته هو الصواب ولا سيما إذا قورن بما يأتي في السطر التالي.

<<  <  ج: ص:  >  >>