للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا قَسَمٌ، وَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقْدَ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ١] وَمِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ أَنْ لَا نَفْيَ وَرَدَ لِكَلَامٍ قَبْلَ الْقَسَمِ وَتَوْجِيهُ هَذَا الوجه هاهنا ظاهر، لأنه تعالى حكى هاهنا عَنِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ فَقَوْلُهُ لَا رَدٌّ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِبْطَالٌ لِذَلِكَ الظَّنِّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ عَرَفْتَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ يُخَالِفُهَا، وَعَرَفْتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ الشَّفَقِ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ الْحَظْرُ بِأَنْ يُقْسِمَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرْكِيبُ لَفْظِ الشَّفَقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِرِقَّةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفَقٌ كَأَنَّهُ لَا تَمَاسُكَ لِرِقَّتِهِ، وَيُقَالُ: لِلرَّدِيءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَفَقٌ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ إِذَا رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ وَالشَّفَقَةُ رِقَّةُ الْقَلْبِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَثَرِ الْبَاقِي مِنَ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِهَا إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ هُوَ النَّهَارُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ اللَّيْلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ النَّهَارَ فَالْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاقِعٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعَاشٌ وَالثَّانِي سَكَنٌ وَبِهِمَا قِوَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحُمْرَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ الْبَيَاضُ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ/ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعْلَ الشَّفَقَ وَقْتًا لِلْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحُمْرَةَ لَا الْبَيَاضَ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَمْتَدُّ وَقْتُهُ وَيَطُولُ لُبْثُهُ، وَالْحُمْرَةُ لَمَّا كَانَتْ بَقِيَّةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَعُدَتِ الشَّمْسُ عَنِ الْأُفُقِ ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّفَقِ لَمَّا كَانَ مِنَ الرِّقَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّوْءَ يَأْخُذُ فِي الرِّقَّةِ وَالضَّعْفِ مِنْ عِنْدِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ فَتَكُونُ الْحُمْرَةُ شَفَقًا. أَمَّا قَوْلُهُ:

وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَسَقَ أَيْ جَمَعَ وَمِنْهُ الْوَسْقُ وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يُكَالُ وَيُوزَنُ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْحِمْلِ وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ وَالرَّاعِي يَسُقْهَا أَيْ يَجْمَعُهَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :

يُقَالُ وَسَقَهُ فَاتَّسَقَ وَاسْتَوْسَقَ وَنَظِيرُهُ فِي وُقُوعِ افْتَعَلَ وَاسْتَفْعَلَ مُطَاوِعَيْنِ اتَّسَعَ وَاسْتَوْسَعَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَجْمُوعُ أَقَاوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما وَسَقَ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجْمَعُهُ اللَّيْلُ مِنَ النُّجُومِ وَرُجُوعِ الْحَيَوَانِ عَنِ الِانْتِشَارِ وَتَحَرُّكِ مَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ الْهَوَامُّ، ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إلى الأشياء كلها الاشتمال اللَّيْلِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الْحَاقَّةِ: ٣٨] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَا عُمِلَ فِيهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ تَهَجُّدُ الْعِبَادِ فَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّيْلَ جَمَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِأَنَّ ظُلْمَتَهُ كَأَنَّهَا تُجَلِّلُ الْجِبَالَ وَالْبِحَارَ وَالشَّجَرَ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَسَقَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ كَمَا يقال: وصلته

<<  <  ج: ص:  >  >>