للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحْوَالِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ سَلَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ اقْتِدَارِهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَحَوْزَتِهِ، كَالْمُحَاطِ إِذَا أُحِيطَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ فَسُدَّ عَلَيْهِ مَسْلَكُهُ، فَلَا يَجِدُ مَهْرَبًا يَقُولُ تَعَالَى: فَهُوَ كَذَا فِي قَبْضَتِي وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَمُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ فَلَا تَجْزَعْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَلَيْسُوا يَفُوتُونَنِي إِذَا أَرَدْتُ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تَعَالَى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: ٢١] وَقَوْلِهِ:

وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاءِ: ٦٠] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُسَ: ٢٢] فَهَذَا كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُشَارَفَةِ الْهَلَاكِ، يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِكَ قَدْ شَارَفُوا الْهَلَاكَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، فَهُوَ مُرْصِدٌ بِعِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى رَسُولَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ، هُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَجِيدٌ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ، فَلَمَّا حَكَمَ فِيهِ بِسَعَادَةِ قَوْمٍ وَشَقَاوَةِ قَوْمٍ، وَبِتَأَذِّي قَوْمٍ مِنْ قَوْمٍ، امْتَنَعَ تَغَيُّرُهُ وَتَبَدُّلُهُ، فَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ التَّسْلِيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ (فِي لَوْحٍ) وَاللَّوْحُ الْهَوَاءُ يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقُرِئَ (مَحْفُوظٌ) / بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْقُرْآنِ كَمَا قُلْنَا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: ٧٧، ٧٨] فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمَكْنُونُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَاحِدًا ثُمَّ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا عَنْ أَنْ يَمَسَّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٧٩] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا مِنَ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ سِوَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنِّ اللَّوْحَ شَيْءٌ يَلُوحُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَقْرَءُونَهُ وَلَمَّا كَانَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَارِدَةً بِذَلِكَ وَجَبَ التَّصْدِيقُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>