للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَنُيَسِّرُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنُقْرِئُكَ وَقَوْلَهُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ/ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعْتِرَاضٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، وَنُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ، يَعْنِي فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ وَثَانِيهَا:

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيُسْرَى الْجَنَّةُ، وَالْمَعْنَى نُيَسِّرُكَ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْلَمَهُ وَتَعْمَلَ بِهِ وَرَابِعُهَا: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ الْعِبَارَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ: جُعِلَ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ مُيَسَّرًا لِفُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: جُعِلَ فُلَانٌ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ هاهنا الْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا أَنَّهَا اخْتِيَارُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي سُورَةِ اللَّيْلِ أَيْضًا، فَكَذَا هِيَ اخْتِيَارُ الرَّسُولِ فِي

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

وَفِيهِ لَطِيفَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَاهِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ قَابِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَمَا دَامَ الْقَادِرُ يَبْقَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ صدور الفعل عنه، فإذا نرجح جَانِبُ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى جَانِبِ التَّارِكِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْفِعْلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ مَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يُوجَدْ، وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّيْسِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّحْقِيقِ هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ، لَا أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفَاعِلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ وَسِرٌّ عَجِيبٌ يُبْهِرُ الْعُقُولَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بِنُونِ التَّعْظِيمِ لِتَكُونَ عَظَمَةُ الْمُعْطِي دَالَّةً عَلَى عَظَمَةِ العطاء، نظيره قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: ٢] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: ٩] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: ١] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ أَبْوَابِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانَ صَبِيًّا لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ لَهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ جُهَّالٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ قدوة للعالمين، وهديا للخلق أجمعين. أما قوله تعالى:

[[سورة الأعلى (٨٧) : آية ٩]]

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)

فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لما تكمل «١» بِتَيْسِيرِ جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَرَ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام تاما بمقتضى قوله: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الأعلى: ٨] أمر بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ فَوْقَ التَّمَامِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقْتَضِي تَكْمِيلَ النَّاقِصِينَ وَهِدَايَةَ الْجَاهِلِينَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَيَّاضًا لِلْكَمَالِ، فكان تاما وفوق التمام، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ سَوَاءٌ نَفَعَتْهُمُ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ، فَمَا الْمُرَادُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى؟ الجواب: أن المعلق بأن عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النُّورِ: ٣٣] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ/ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٧٢] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: ١٠١] فَإِنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْخَوْفُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] وَالرَّهْنُ جَائِزٌ مَعَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ:

فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] وَالْمُرَاجَعَةُ جَائِزَةٌ بِدُونِ هذا الظن، إذا


(١) في الأصل (تكمل) والمعنى عليها ظاهر كما في سياق الكلام ولعل (تكفل) أنسب هنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>