للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِلْحِكْمَةِ فِيهَا نَصِيبٌ، وَلَيْسَ لِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ.

والقسم الأول: كالإنسان الحسن الوجه، والبساتين النُّزْهَةِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِلَّا أَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الشَّهْوَةِ وَمَطْلُوبَةٌ لِلنَّفْسِ، فَلَمْ يَأْمُرْ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَفِيهَا أَنْ تَصِيرَ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ غَالِبَةً عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَسَبَبًا لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْسِ فِي مَحَبَّتِهِ.

أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِي صُورَتِهَا حُسْنٌ، وَلَكِنْ يَكُونُ داعية تركيبها حكم باللغة وَهِيَ مِثْلُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الإبل هاهنا أَوْلَى لِأَنَّ إِلْفَ الْعَرَبِ بِهَا أَكْثَرُ وَكَذَا السَّمَاءُ وَالْجِبَالُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ وَالْحَاجَةِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ بِحَيْثُ يَكْمُلُ نَصِيبُ الْحِكْمَةِ فِيهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ زَحْمَةِ الشَّهْوَةِ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيهَا فَهَذَا مَا يَحْضُرُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق.

[[سورة الغاشية (٨٨) : آية ٢١]]

فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَتَذْكِيرُ الرَّسُولِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَأَمْثَالِهَا وَالْبَعْثِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِ تِلْكَ، وَذَلِكَ بَعْثٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالصَّبْرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ مَعَهُ، وَبَيَانِ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا قَالَ:

إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ.

[[سورة الغاشية (٨٨) : آية ٢٢]]

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)

قال صاحب «الكشاف» : بِمُصَيْطِرٍ بِمُسَلَّطٍ، كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥] وَقَوْلِهِ:

أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: ٩٩] وَقِيلَ: هُوَ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ مَفْتُوحُ الطَّاءِ عَلَى أَنَّ سَيْطَرَ مُتَعَدٍّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ مَا أُمِرْتَ إِلَّا بِالتَّذْكِيرِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ، أَوْ تُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا، قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: ٣٧] . أما قوله تعالى:

[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]

إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)

فَفِيهِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، وَعَلَى هَذَا التقدير هذا الاستثناء، استثناء عما ذا؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ عن الضمير في عَلَيْهِمْ [الغاشية: ٢٢] وَالتَّقْدِيرُ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ مَأْمُورًا بِالْقِتَالِ وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ لا تصبر مُسَلَّطًا إِلَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَمَا تَقُولُ في الكلام: قعدنا نتذكر الْعِلْمَ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يرغب، فكذا هاهنا التقدير لست

<<  <  ج: ص:  >  >>