للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَتِ الْآخِرَةُ شَرًّا لَهُ، فَلَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّمَ لَكَانَ كَذِبًا، وَلَوْ خَصَّصَ الْمُطِيعِينَ بِالذِّكْرِ لَافْتُضِحَ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦٢] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالَّذِي كَانَ مَعَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا، لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: ٤٠] إِذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ،

وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَمَعَهُ الْأُلُوفُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَجِدُوا الْإِجَابَةَ، فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكُمْ مَا دَامَ مَعَكُمْ سَاعٍ بِالنَّمِيمَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: [إِنِّي] أَبْغُضُهُ فَكَيْفَ أَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَمَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّمَّامَ قَدْ مَاتَ، وَهَذِهِ جِنَازَتُهُ فِي مُصَلَّى، كَذَا فَذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تِلْكَ الْمُصَلَّى، فَإِذَا فِيهَا سَبْعُونَ مِنَ الْجَنَائِزِ،

فَهَذَا سَتْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَيْفَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ

أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَوْلَا شُيُوخٌ رُكَّعٌ»

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَةِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرُدُّ الْأُلُوفَ لِمُذْنِبٍ واحد، وهاهنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.

[[سورة الضحى (٩٣) : آية ٥]]

وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥)

وَاعْلَمِ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ: خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ إِلَى أَيِّ حَدٍّ/ يَكُونُ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِقْدَارَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ مَا يَتَمَنَّاهُ الرَّسُولُ وَيَرْتَضِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: ٤] فَقِيلَ وَلِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَّسِعُ الدُّنْيَا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى الْآخِرَةِ فَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْفُ قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه الْمِسْكُ وَفِيهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَمَّا التَّعْظِيمُ

فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْأُمَّةِ،

يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: إِذًا لَا أَرْضَى وَوَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ،

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الشَّفَاعَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِغْفَارِ فقال: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغْفَارُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرَّدَّ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَإِنَّمَا يَرْضَى بِالْإِجَابَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يَرْضَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِجَابَةُ لَا الرَّدُّ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يَرْتَضِيهِ. عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُذْنِبِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يَقُولُ لَا أُوَدِّعُكَ وَلَا أَبْغُضُكَ بَلْ لَا أَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَتْبَاعِكَ وَأَشْيَاعِكَ طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك، فهذا التفسير أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَالثَّالِثُ: الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رِضَا الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ كُلَّ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ حُصُولُ الشَّفَاعَةِ،

وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رِضَاءُ جَدِّي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مُوَحِّدٌ،

وَعَنِ الْبَاقِرِ، أَهْلُ القرآن يقولون: أرجى آية قوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: ٥٣] وَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: أَرْجَى آيَةٍ قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وَاللَّهِ إِنَّهَا الشَّفَاعَةُ لَيُعْطَاهَا فِي أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَقُولَ رَضِيتُ،

هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بدر

<<  <  ج: ص:  >  >>