للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جَانِبٍ آخَرَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً لِمَا كَانَ يُرِيدُ تَعَالَى مِنْ نَسْخِ الْقِبْلَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْكَرَ الْيَهُودُ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ/ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَةِ: ١٤٢] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا اسْتَقْبَلُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَعِدَ السَّمَاءَ مِنَ الصَّخْرَةِ وَالنَّصَارَى اسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وُلِدَ هُنَاكَ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا

[مَرْيَمَ: ١٦] فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَفَ مَعْبُودَهُ بِالْحُلُولِ فِي الْأَمَاكِنِ وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا خَالِقٌ، فَكَيْفَ تَخْلُصُ لَهُمُ الْجَنَّةُ وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالتَّخْيِيرِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا فِي الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ حَيْثُ شَاءَ، ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ بِتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ لِلْكَعْبَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ وَأَرَادَ. وَسَادِسُهَا: مَا

رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ فَجَعَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مَسْجِدَهُ حِجَارَةً مَوْضُوعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ صَلَّيْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ

وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ نُقِلُوا حِينَئِذٍ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْقِتَالَ فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ نَسْخِ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَسَابِعُهَا:

أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي النَّوَافِلَ حَيْثُ تَتَوَجَّهُ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي السَّفَرِ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ،

فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ لِنَوَافِلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَقَدْ صَادَفْتُمُ الْمَطْلُوبَ: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الْفَضْلِ غَنِيٌّ، فَمِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ رَخَّصَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَكُمُ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ، إِمَّا تَرْكُ النَّوَافِلِ، وَإِمَّا النُّزُولُ عَنِ الرَّاحِلَةِ وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الرُّفْقَةِ بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ، فَإِنَّهَا صَلَوَاتٌ مَعْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ فَتَكْلِيفُ النُّزُولِ عَنِ الرَّاحِلَةِ عِنْدَ أَدَائِهَا وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ النَّوَافِلِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَتَكْلِيفُ الِاسْتِقْبَالِ يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ. قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْيِيرِ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَثَانِيهِمَا: فِي السَّفَرِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ لِلظُّلْمَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، لِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُصَلِّيَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا تَخْيِيرَ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَلَّفِينَ فِي اسْتِقْبَالِ أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ، بَلْ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَوْلَى بِعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ التَّحْوِيلِ إِلَى الْكَعْبَةِ اخْتِصَاصًا فِي الشَّرِيعَةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا: لَمْ يَثْبُتْ/ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَأَيْضًا فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَارَ مَنْسُوخًا بِالْكَعْبَةِ فَهَذِهِ الدَّلَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ تَكَلَّمَ الْيَهُودُ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تِلْكَ الْقِبْلَةَ كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا صَوَابًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ صَوَابٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَيْنَمَا يُوَلُّوا مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ فثم وجه