للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى دَقَائِقَ مُرَغِّبَةٍ فِي قَبُولِ الدِّينِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ بَلْ قَالَ: وَصَّاهُمْ وَلَفْظُ الْوَصِيَّةِ أَوْكَدُ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ احْتِيَاطُ الْإِنْسَانِ لِدِينِهِ أَشَدَّ وَأَتَمَّ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُهْتَمًّا بِهَذَا الْأَمْرِ مُتَشَدِّدًا فِيهِ، كَانَ الْقَوْلُ إِلَى قَبُولِهِ أَقْرَبَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَصَّصَ بَنِيهِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَبْنَائِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ في آخره عُمْرِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِغَيْرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ/ عَمَّمَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ جَمِيعَ بَنِيهِ وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ زَجَرَهُمْ أَبْلَغَ الزَّجْرِ عَنْ أَنْ يَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا:

أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَزَجَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَصِيَّةً أُخْرَى، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الرَّجُلُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْفَضْلِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ وَكَمَالِ السِّيرَةِ، ثُمَّ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْأَمْرِ، عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِالِاهْتِمَامِ، وَأَجْرَاهَا بِالرِّعَايَةِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّهُ خَصَّ أَهْلَهُ وَأَبْنَاءَهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو الْكُلَّ أَبَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْقُوبُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَّى كَوَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: قُرِئَ وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى بَنِيهِ، وَمَعْنَاهُ: وَصَّى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، أما قوله: يا بَنِيَّ فَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِوَصَّى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَنْ يَا بَنِيَّ.

أَمَّا قَوْلُهُ: اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ بِأَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ الظَّاهِرَةَ الْجَلِيَّةَ وَدَعَاكُمْ إِلَيْهِ وَمَنَعَكُمْ عَنْ غَيْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَالْمُرَادُ بَعْثُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ يُخْشَى إِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَيْهِ أَنْ تُعَاجِلَهُ الْمَنِيَّةُ فَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِالنَّجَاةِ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ فَيَصِيرُ مُدْخِلًا نَفْسَهُ فِي الْخَطَرِ وَالْغُرُورِ.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي وَصِيَّةِ بَنِيهِ فِي الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّ يَعْقُوبَ وَصَّى بَنِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُبَالَغَةً فِي البيان وفيه مسائل:

[في معنى أم في قوله تعالى أم كنتم شهداء] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ (أَمْ) مَعْنَاهَا حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ، أَوْ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ «أَوْ» وَهِيَ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْقَطِعَةً مِنْهُ، أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَوْنَ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ فَتَسْأَلُ هَلْ أَحَدُ هَذَيْنِ عِنْدَكَ فَلَا جَرَمَ كَانَ جَوَابُهُ لَا أَوْ نَعَمْ، أَمَّا إِذَا علمت