للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن لكل منكم وجهة مِنَ الْقِبْلَةِ هُوَ مُوَلِّيهَا، أَيْ هُوَ مُسْتَقْبِلُهَا. وَمُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا لِصَلَاتِهِ الَّتِي هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِهَا إِلَى رَبِّهِ، وَكُلٌّ يَفْرَحُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يُفَارِقُهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قبلة واحدة، مع لزوم الأديان المختلفة: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

أَيْ فَالْزَمُوا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ قِبْلَتَكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى خَيْرَاتٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِشَرَفِكُمْ بِقِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَأْخُذُونَهُ عَلَى انْقِيَادِكُمْ لِأَوَامِرِهِ فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَأَيْنَمَا تَكُونُوا مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فِي صَعِيدِ الْقِيَامَةِ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْكُمْ وَالْمُبْطِلِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنِ الْمُطِيعُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْعَاصِي، وَمَنِ الْمُصِيبُ مِنْكُمْ وَمَنِ الْمُخْطِئُ، إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَجِهَةً قَدِ اخْتَارَهَا، إِمَّا بِشَرِيعَةٍ وَإِمَّا بِهَوًى، فَلَسْتُمْ تُؤْخَذُونَ بِفِعْلِ غَيْرِكُمْ، فَإِنَّمَا لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قوله: وَمُوَلِّيها

عائداً إلى الله تعالى فههنا وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِبْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ جِهَةٌ يُوَلِّيهَا اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ، إِذَا شَاءَ يَفْعَلُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ صَلَاحًا فَالْجِهَتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي وَلَّى وُجُوهَ عِبَادِهِ إِلَيْهِمَا، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ بِالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّ انْقِيَادَكُمْ خَيْرَاتٌ لَكُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى مَطَاعِنِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يقولون: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة: ١٤٢] فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ جَمِيعًا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. الثَّانِي: أَنَّا إِذَا فسرنا قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ

بِجِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَنَوَاحِيهَا، كَانَ الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ، أَيْ نَاحِيَةٌ من الكعبة: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، فَإِنَّهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ تُؤَدَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فَهِيَ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ نِيَّاتُهُمْ فَهُوَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا وَيُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

أما قوله تعالى: وَمُوَلِّيها

أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَجْهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مُسْتَقْبِلُهَا وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: مُوَلِّيهَا عَلَى مَعْنَى مُتَوَلِّيهَا يُقَالُ: قَدْ تَوَلَّاهَا وَرَضِيَهَا وَأَتْبَعَهَا، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ النَّخَعِيِّ:

هُوَ مَوْلَاهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقر

وفي قراءة الباقين: وَلِّيها

وَلِقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَلَيْتَهُ فَقَدْ وَلَاكَ، لِأَنَّ مَعْنَى وَلَيْتَهُ أَيْ جَعَلْتَهُ/ بِحَيْثُ تَلِيهِ وَإِذَا صَارَ هَذَا بِحَيْثُ يَلِي ذَلِكَ فَذَاكَ أَيْضًا، يَلِي هَذَا، فَإِذَنْ قَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] ولا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالظَّالِمُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الفراء.

والثاني: وَمُوَلِّيها

أي قد زُيِّنَتْ لَهُ تِلْكَ الْجِهَةُ وَحُبِّبَتْ إِلَيْهِ، أَيْ صارت بحيث يحبها ويرضاها.

أما قوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

فَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْبَدَارِ إِلَى الطَّاعَةِ فِي وَقْتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ

لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ»

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُهُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ النَّدْبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الْحَدِيدِ: ٢١] وَمَعْنَاهُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالصَّلَاةُ مِمَّا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ إِلَيْهَا مَنْدُوبَةً. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: ١٠، ١١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّابِقُونَ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُقَرَّبُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا السَّابِقُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْفَضْلِ مَنُوطٌ بالمسابقة. ورابعها: