للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٤] فَلَمَّا ذَكَّرَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَالْمِنَّةَ، أَمَرَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا بِالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ فَإِنْ قِيلَ: كَما هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا؟ قُلْنَا:

جوزه الفراء وجعل لأذكروني جَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَما. وَالثَّانِي: أَذْكُرْكُمْ وَوَجْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَ لِيَذْكُرَهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلِمَا سَلَفَ مِنْ نِعْمَتِهِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَبْلَ الْكَلَامِ إِذَا وُجِدَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَتَعَلُّقُهُ بِهِ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَجْهِ التشبيه قولان: إن قلنا لكاف مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي كَانَ الْمَعْنَى/ أَنَّ النِّعْمَةَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ بِالذِّكْرِ جَارِيَةٌ مَجْرَى النِّعْمَةِ بِالرِّسَالَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «مَا» فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا مَصْدَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَإِرْسَالِنَا فِيكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيكُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَرَبُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ وَفِي إِرْسَالِهِ فِيهِمْ وَمِنْهُمْ، نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا لَهُمْ فِيهِ الشَّرَفِ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ حَالِ الْعَرَبِ الْأَنَفَةُ الشَّدِيدَةُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ فَبَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاسِطَتِهِمْ لِيَكُونُوا إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبَ.

أَمَّا قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيَتَأَدَّى بِهِ الْعِبَادَاتُ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلُومِ، وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ تِلَاوَتِهِ كُلُّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَلِّمُهُمْ مَا إِذَا تَمَسَّكُوا بِهِ صَارُوا أَزْكِيَاءَ عَنِ الْحَسَنِ. وَثَانِيهَا: يُزَكِّيهِمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، أَيْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَيَصِفُكُمْ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُزَكِّيَ زَكَّى الشَّاهِدَ، أَيْ وَصَفَهُ بِالزَّكَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّنْمِيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ يُكَثِّرُكُمْ، كَمَا قَالَ: إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الْأَعْرَافِ: ٨٦] وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَيَتَوَاصَلُوا وَيَكْثُرُوا، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ فَلَعَلَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِالْمُطِيعِ كُلَّ ذَلِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ فَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ، وَأَمَّا الْحِكْمَةَ فَهِيَ الْعِلْمُ بِسَائِرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى تَفْصِيلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِكْمَةَ هِيَ سُنَّةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَجَهَالَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، فَالْخَلْقُ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ ضَالِّينَ فِي أَمْرِ أَدْيَانِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ حَتَّى عَلَّمَهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أنواع النعم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ، أَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ، فَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ بِاللِّسَانِ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيُسَبِّحُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَذِكْرُهُمْ إِيَّاهُ