للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنَ الْخَلَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ فَصَرَفَهُ إِلَى أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ كَذَلِكَ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمُ الْجَزَعُ وَالِاسْتِغَاثَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ التَّعَجُّبِ وَفِي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وهاهنا بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعَجُّبِ: وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِ حُصُولِ عِظَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَمَا لَمْ يُوجَدِ الْمَعْنَيَانِ لَا يَحْصُلُ التَّعَجُّبُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ التَّعَجُّبِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءِ السَّبَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَظَمَةِ سَبَبُ حُصُولٍ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ شُرَيْحٌ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٢] بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَجِبْتُ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ خَفَاءَ شَيْءٍ مَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ قَالَ النَّخَعِيُّ:

مَعْنَى التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدُ الِاسْتِعْظَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا بُدَّ مَعَ الِاسْتِعْظَامِ مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِضَافَةُ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّعَجُّبِ صِيغَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا أَفْعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَفْعِلْ بِهِ كَقَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَمَ: ٣٨] أَمَّا الْعِبَارَةُ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُهُمْ مَا أَصْبَرَهُ فَفِيهَا مَذَاهِبُ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ «مَا» اسْمٌ مُبْهَمٌ يَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَحْسَنَ فِعْلٌ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَزَيْدًا مَفْعُولٌ وَتَقْدِيرُهُ: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا أَيْ صَيَّرَهُ حَسَنًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ الكوفيين فاسداً وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا أَكْرَمَ اللَّهَ، وَمَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْلَمَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: شَيْءٌ جَعَلَ اللَّهَ كَرِيمًا وَعَظِيمًا وَعَالِمًا، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاجِبَةٌ لِذَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ. هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِذَا أُطْلِقَتْ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِعْظَامُ مَعَ خَفَاءِ سَبَبِهِ وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ شَطْرَيْهِ وَهُوَ الِاسْتِعْظَامُ فَحَسْبُ، قُلْنَا:

إِذَا قُلْنَا مَا أعظم الله فكلمة «ما» هاهنا لَيْسَتْ بِمَعْنَى شَيْءٍ فَلَا تَكُونُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ خَبَرًا عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِنَا. مَا أَحْسَنَ زَيْدًا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا، لَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ إِذَا صَرَّحْنَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَالْهَذَيَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ قَوْلِنَا: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا بِقَوْلِنَا شَيْءٌ حَسَّنَ زَيْدًا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الَّذِي حَسَّنَ زَيْدًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أَوْلَى، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّا لَوْ قُلْنَا مَنْ أَحْسَنَ زَيْدًا أَنْ يَبْقَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عَلِمْنَا فَسَادَ مَا قَالُوهُ.

الْحُجَّةُ الرابعة: أن على التفسير الذي قالوه لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ زَيْدًا ضَرَبَ عَمْرًا فَكَمَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعَجُّبٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلشَّيْءِ فَثُبُوتُهَا لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَشَيْءٌ صَيَّرَهُ حَسَنًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ،