للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَائِدٌ إِلَى التَّبْدِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِثْمَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَى الْمُبَدِّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الْمُبَدِّلَ مَنْ هُوَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ لَا يُعَذَّبُ عَلَى كُفْرِ أَبِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَرَ الْوَارِثَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَارِثَ قَصَّرَ فِيهِ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ دَيْنَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ ذَلِكَ الْوَارِثِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجُهَّالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِثْمَ التَّبْدِيلِ لَا يَعُودُ إِلَّا إِلَى الْمُبَدِّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَتَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [الجاثية: ١٥، فُصِّلَتْ: ٤٦] لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ:

٢٨٦] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ، وَفِي الْأَقَارِبِ مَنْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَغْيِيرُ الْوَصِيَّةِ أَمَّا مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، / فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَصَرَفَ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْأَجَانِبِ كَانَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ أَحَقَّ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُنْقَضُ ذَلِكَ وَيُرَدُّ إِلَى الْأَقْرَبِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، أَمَّا مَنْ لَا يُوجِبُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَرِثُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ بِالثُّلُثِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَحَبِّ، فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْمُسْتَحَبُّ هُوَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ،

لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»

فَنَدَبَ إِلَى النُّقْصَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الثُّلُثُ مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ وَالثَّوَابُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ حَالَ الْمَيِّتِ وَحَالَ الْوَرَثَةِ وَقَدْرَ التَّرِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلْثِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِ الْوَرَثَةِ، وَالْتِمَاسِ الرِّضَا مِنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِ الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ إِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ وَيَكُونُ عَطِيَّةً مِنَ الْمَيِّتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَكُونُ كَابْتِدَاءِ عَطِيَّةٍ مِنَ الْوَارِثِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِلْوَصِيَّةِ عَلَى حَدِّهَا، وَيَعْلَمُهَا عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ الْوَاقِعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أعلم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٢]]

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مَنْ يُبَدِّلُ الْوَصِيَّةَ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّبْدِيلِ أَنْ يُبَدِّلَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، أَمَّا إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ عَلَى طَرِيقِ الْإِصْلَاحِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فَذَكَرَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ أَوْجَبَ الْإِثْمَ فِي الْأَوَّلِ وَأَزَالَهُ عَنِ الثَّانِي بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا تَبْدِيلَيْنِ وَتَغْيِيرَيْنِ، لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي هَذَا الباب، وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُوصٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا لُغَتَانِ: وَصَّى وَأَوْصَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ فِي الْأُمُورِ، وَأَصْلُهُ الْعُدُولُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، يُقَالُ: جَنِفَ يَجْنَفُ بِكَسْرِ النُّونِ