للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَذَلِكَ السُّؤَالُ إِمَّا أَنَّهُ كَانَ سُؤَالًا عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَنْ صِفَاتِهِ، أَوْ عَنْ أَفْعَالِهِ، أَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الذَّاتِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ التَّشْبِيهَ، فَيَسْأَلَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَاتِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ سَأَلَ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَسْمَعُ دُعَاءَنَا فَيَكُونُ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَمِيعًا، أَوْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ أَذِنَ فِي الدُّعَاءِ، وَهَلْ أَذِنَ فِي الدُّعَاءِ، وهل أذن في أن ندعوه بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، أَوْ مَا أَذِنَ إِلَّا بِأَنْ نَدْعُوَهُ بِأَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَلْ أَذِنَ لَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ كَيْفَ شِئْنَا، أَوْ مَا أَذِنَ بِأَنْ نَدْعُوَهُ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ دُعَاءَنَا فَهَلْ يُجِيبُنَا إِلَى مَطْلُوبِنَا، وَهَلْ يَفْعَلُ مَا نَسْأَلُهُ عَنْهُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي يَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ الذَّاتِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: عَنِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ ذَاتِهِ لَا عَنْ فِعْلِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ السُّؤَالَ مَتَى كَانَ مُبْهَمًا وَالْجَوَابَ مُفَصَّلًا، دَلَّ الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْمُبْهَمِ هُوَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَلَمَّا قَالَ فِي الْجَوَابِ:

فَإِنِّي قَرِيبٌ عَلِمْنَا أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسَبِ الذَّاتِ، وَلِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ بَلِ السُّؤَالُ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ قَالَ:

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَهَذَا هُوَ شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ ليس المراد من هذا القريب بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ والحفظ، فيحتاج هاهنا إِلَى بَيَانِ مَطْلُوبَيْنِ:

الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أن هذا القريب لَيْسَ قُرْبًا بِحَسَبِ الْمَكَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ لَكَانَ مُنْقَسِمًا، إِذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ مِثْلَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ. وَلَوْ كَانَ مُنْقَسِمًا لَكَانَتْ مَاهِيَّتُهُ مُفْتَقِرَةً فِي تَحَقُّقِهَا إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمَفْرُوضَةِ وَجُزْءُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، فَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَمُحْدَثٌ وَمُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَالِقِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ فَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ بِالْمَكَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ عَنْ جِهَةٍ دُونِ جِهَةٍ، أَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ بُعْدٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ مُحَالٌ وَالثَّانِي: مُحَالٌ أَيْضًا/ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَاهِيًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَنَاهٍ لَكَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا الْجَانِبِ الْمُتَنَاهِي مُخَالِفَةً فِي الْمَاهِيَّةِ لِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْجِهَةِ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قُرْبًا بِالْجِهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي الْمَكَانِ لَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ، بَلْ كَانَ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَبَعِيدًا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكَانَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَيْدٍ الَّذِي هُوَ بِالْمَشْرِقِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ عَمْرٍو الَّذِي هُوَ بِالْمَغْرِبِ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَرِيبًا مِنَ الْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ قربا