للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَتَصَدَّقُوا وَأَنْ لَا يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ تُحْمَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَهْلِكُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْفَاقَ هُوَ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الْمُضَيِّعِ: إِنَّهُ مُنْفِقٌ فَإِذَا قَيَّدَ الْإِنْفَاقَ بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ به في طريق الدين، لأن السَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ دِينُهُ. فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْفَاقًا فِي حَجٍّ/ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ كَانَ جِهَادًا بِالنَّفْسِ، أَوْ تَجْهِيزًا لِلْغَيْرِ، أَوْ كَانَ إِنْفَاقًا فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ فِي الصَّدَقَاتِ أَوْ عَلَى الْعِيَالِ، أَوْ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَوْ عِمَارَةِ السَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجِهَادِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، بَلْ قَالَ:

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِنْفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ فَيَجِبُ إِنْفَاقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ اهْتَزَّ وَنَشِطَ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ الثَّانِي:

أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ وَقْتَ ذَهَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعُمْرَةُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُفْضِيَ إِلَى الْقِتَالِ إِنْ مَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَكَانَتْ عُمْرَةً وَجِهَادًا، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْفِقُوا فِي الْجِهَادِ وَالْعُمْرَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ التَّهْلُكَةِ الْهَلَاكُ يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هَلَاكًا وَهَلَكًا وَتَهْلُكَةً: قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصْدَرًا عَلَى تَفْعُلَةٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ إِلَّا هَذَا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ:

التَّنْصُرَةَ وَالتَّسْتُرَةَ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمِثَالُ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ جَاءَ صِفَةً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَصْلُهُ التَّهْلِكَةُ، كَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّبْصِرَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ هَكَذَا فَأُبْدِلَتِ الضَّمَّةُ بِالْكَسْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْجُوَارُ فِي الْجِوَارِ.

وَأَقُولُ: إِنِّي لَأَتَعَجَّبُ كَثِيرًا مِنْ تَكَلُّفَاتِ هَؤُلَاءِ النَّحْوِيِّينَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا شِعْرًا مَجْهُولًا يَشْهَدُ لَمَا أَرَادُوهُ فَرِحُوا بِهِ، وَاتَّخَذُوهُ حُجَّةً قَوِيَّةً، فَوُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَشْهُودِ لَهُ مِنَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ بِالْفَصَاحَةِ، أَوْلَى بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَاسْتِقَامَتِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِأَيْدِيكُمْ تَقْتَضِي إِمَّا زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا فَقَالَ قَوْمٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَذَبْتُ الثَّوْبَ بِالثَّوْبِ، وَأَخَذْتُ الْقَلَمَ بِالْقَلَمِ فَهُمَا لُغَتَانِ مُسْتَعْمَلَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي الْأَنْفُسُ كَقَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: ١٠] أَوْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشُّورَى: ٣٠] فَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بل هاهنا حَذْفٌ. وَالتَّقْدِيرُ:

وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ النَّفَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِهَا، أَمَّا الأولون فذكروا فيه وجوه الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُنْفِقُوا فِي مُهِمَّاتِ الْجِهَادِ أَمْوَالَهُمْ، فَيَسْتَوْلِيَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَيُهْلِكَهُمْ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إن كنت من رجال الدين فأنفق مَالَكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا/ فَأَنْفِقْ مَالَكَ فِي دَفْعِ الْهَلَاكِ وَالضَّرَرِ عَنْ نَفْسِكَ