للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمُرَادُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّ سُنَّتَهُمَا كَانَتِ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ،

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَيُخَالِفُ الْحُمْسَ،

وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ جَائِزٌ إِذَا كَانَ رَئِيسًا يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، وَإِيقَاعُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عِبَارَةً عَنْ تَقَادُمِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مِمَّا فَعَلَهُ النَّاسُ قَدِيمًا، فَهَذَا جُمْلَةُ الْوُجُوهِ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمُ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَانُوا يُفِيضُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ تَكُونَ إِفَاضَتُهُمْ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ فِيهِ إِفَاضَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالًا:

أَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: ١٩٨] لِمَكَانِ ثُمَّ فَإِنَّهَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ كَانَ هَذَا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَاتَّقَوْنِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْإِفَاضَةِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا.

قُلْنَا: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ إِلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى الْتِزَامِهِ.

وَأَمَّا الْإِشْكَالُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ مِنْ حَيْثُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عَلَى الزَّمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ.

أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: عَنْ ذَلِكَ السؤال بأن ثُمَّ هاهنا عَلَى مِثَالِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: / وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: ١٣- ١٧] أَيْ كَانَ مَعَ هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ كَذَا فَإِنَّ فَائِدَةَ كلمة ثُمَّ هاهنا تَأَخُّرُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَا تَأَخُّرُ هَذَا الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ.