للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ [الْبَقَرَةِ: ١٣١] وَالْإِسْلَامُ إِنَّمَا سُمِّيَ إِسْلَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَغَلُبَ اسْمُ السِّلْمِ عَلَى الصُّلْحِ وَتَرْكِ الْحَرْبِ، وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ عِنْدَ الصُّلْحِ يَنْقَادُ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفِيهِ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ: السِّلْمُ، وَالسَّلْمُ، وَالسَّلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا السِّلْمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمُ ادْخُلُوا بِكُلِّيَّتِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، أَيْ آثَارَ تَزْيِينِهِ وَغُرُورِهِ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى النِّفَاقِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ احْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ عَقِيبَ مَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [البقرة: ٢٠٤] الْآيَةَ فَلَمَّا وَصَفَ الْمُنَافِقَ بِمَا ذَكَرَ دَعَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْإِيمَانِ/ بِالْقَلْبِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامُوا بَعْدَهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَرَائِعِ مُوسَى، فَعَظَّمُوا السَّبْتَ، وَكَرِهُوا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: تَرْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَاجِبٌ فِي التَّوْرَاةِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا فَكَرِهَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَا يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ اعْتِقَادًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي التَّمَسُّكِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَعَلُوا قَوْلَهُ: كَافَّةً من وصف المسلم، كَأَنَّهُ قِيلَ: ادْخُلُوا فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ وَاقِعًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بالنبي عليه السلام فقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ أَكْمِلُوا طَاعَتَكُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَلِكَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَكُتُبِهِ فَادْخُلُوا بِإِيمَانِكُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِكِتَابِهِ فِي السِّلْمِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي تَحْسِينِهِ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى دِينِ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ دِينٌ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ بِسَبَبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ: تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الشُّبُهَاتُ الَّتِي يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فِي بَقَاءِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ.

ورابعها: هذا الخطاب واقع على المسلمين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلْسِنَةِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أَيْ دُومُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا تَسْتَأْنِفُونَهُ مِنَ الْعُمُرِ وَلَا تَخْرُجُوا عَنْهُ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ، الشَّيْطانِ أَيْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُلْقِيهَا إِلَيْكُمْ أَصْحَابُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ:

هَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكَّدٌ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا، أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ: سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: دُومُوا عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ