للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ مَحْدُودٌ وَمُتَنَاهٍ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُقُوعُهُ عَلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ فَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَرْجِيحِ مُرَجِّحٍ، وَتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِعْلًا لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، فَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَحْكُمَ بِنَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا عَيْبَ فِيهِمَا يَمْنَعُ مِنَ القول بإلهيتهما سوى أنهم جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ، فَمَنْ جَوَّزَ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِمَ لَا يَحْكُمُ بِإِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ، وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِإِثْبَاتِ مَوْجُودٍ آخَرَ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِلَهٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] وَلَا مَعْنَى لِلْأُفُولِ إِلَّا الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ فَمَنْ جَوَّزَ الْغَيْبَةَ وَالْحُضُورَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ طَعَنَ فِي دَلِيلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَّبَ اللَّهَ فِي تَصْدِيقِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ.

سَادِسُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَاهِيَّةَ وَالْجِنْسَ وَالْجَوْهَرَ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى جِسْمًا مَوْصُوفًا بِالْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَيْسَ إِلَّا بِذِكْرِ الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ وَالْقَدْرِ: فَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [مريم: ٦٥] رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدُّخَانِ: ٨] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: ٩، الشُّعَرَاءِ: ٢٨] خَطَأً وَبَاطِلًا، وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْطِئَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الْجَوَابِ، وَتَصْوِيبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] وَلَمَّا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] وَالْأَحَدُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى جُزْأَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى أَحَدًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٥] أَيْ شَبِيهًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَابِهًا لِلْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ، إِنَّمَا الِاخْتِلَافُ يَحْصُلُ فِيمَا وَرَاءَ الْجِسْمِيَّةِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْعِظَمِ أَوْ بِالصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّاتِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِي الذَّاتِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مَثَلًا لِلْأَجْسَامِ وَثَامِنُهَا: لَوْ كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَكَانَ مُشَارِكًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي عُمُومِ الْجِسْمِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فِي خُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِمَّا أن لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَعُمُومُ كَوْنِهِ جِسْمًا مُغَايِرٌ لِخُصُوصِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا إِذَا وَصَفْنَا تِلْكَ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةَ بِالْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا الْجِسْمَ صِفَةً وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ ذَاتُ الصِّفَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْمَفْهُومِ مِنَ الْجِسْمِ، وَغَيْرَ مَوْصُوفٍ بِهِ وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جِسْمًا لَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي خُصُوصِيَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَثَلًا لَهَا مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَيْهَا فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْسَامُ مُحْدَثَةً