للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَيْكَ، وَفَضَّلَتْكَ عَلَى غَيْرِكَ، لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وَإِنْ كُنْتُ لأَكْرَهُ أَنْ تَأْتِيَ الشَّامَ، وَأَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ يَهُودَ، وَلَكِنْ لا نَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا.

وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ كَثِيرٍ وَتِجَارَةٍ وَتَبْعَثُ بِهَا إِلَى الشَّامِ فَتَكُونُ عِيرُهَا كَعَامَّةِ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ وَتَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجَّارًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ تَاجِرًا مِنْ قُرَيْشٍ فَلَيْسَ عِنْدَهْمُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَعَلَّهَا تُرُسِلُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ،

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَلِّيَ غَيْرَكَ فَتَطُلُبَ أَمْرًا مُدَبَّرًا فَتَرْقَا، وَبَلَغَ خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ مُحَاوَرَةِ عَمِّهِ لَهُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أمانته، وكرم أخلافه، فَقَالَتْ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنَّهُ دَعَانِي إِلَى الْبَعْثَةِ إِلَيْكَ مَا بَلَغَنِي مِنْ صِدْقِ حَدِيثِكَ، وَعِظَمِ أَمَانَتِكَ، وَكَرَمِ أَخْلاقِكَ، وَأَنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلا مِنْ قَوْمِكَ، فَفَعَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقِيَ أَبَا طَالِبٍ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَخَرَجَ مَعَ غُلامِهَا مَيْسَرَةَ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ، وَجَعَلَ عُمُومَتُهُ يُوصُونَ بِهِ أَهْلَ الْعِيرِ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ، فَنَزَلا فِي سُوقِ بُصْرَى فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صومعة راهب قال لَهُ: نُسْطُورَا، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا مَيْسَرَةُ مَنْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ فَقَالَ مَيْسَرَةُ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ مَيْسَرَةُ: نَعَمْ لا تُفَارِقُهُ، قَالَ الرَّاهِبُ: هُوَ هُوَ وَهُو آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَيَا لَيْتَ أَنِّي أُدْرِكُهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ، فَوَعَى ذَلِكَ مَيْسَرَةُ،

ثُمَّ حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُوقَ بَصْرَى فَبَاعَ، سِلْعَتَهُ الَّتِي خَرَجَ بِهَا وَاشْتَرَى، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ اخْتِلافٌ فِي سِلْعَةٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: احْلِفْ بِاللَاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، فَقَالَ الرَّجُلُ: الْقَوْلُ قَوْلُكَ،

ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ وَخَلا بِهِ: يَا مَيْسَرَة هَذَا نَبِيٌّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَإِنَّهُ لَهُوَ تَجِدُهُ أَحْبَارُنَا مَنْعُوتًا فِي كُتُبِهِمْ، فَوَعَى ذَلِكَ مَيْسَرَةُ، ثُمَّ انْصَرَفَ أَهْلُ الْعِيرِ جَمِيعًا، وَكَانَ مَيْسَرَةُ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الحريري مَلَكَيْنِ يُظِلانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَلْقَى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَحَبَّةَ مِنْ مَيْسَرَةَ، فَكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعُوا وكانوا بمر الظهران [١] تقدم رسول


[ (١) ] مر الظهران (بفتح الميم وتشديد الراء وفتح الظاء المعجمة وإسكان الهاء) وهي قرية ذات نخل وثمار

<<  <  ج: ص:  >  >>