للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك إنما وجد أولا لخدمة السنة المطهرة التي لا بد أن تكون السيرة النبوية العامة قاعدة لها. ثم إنه أصبح بعد ذلك منهجا لخدمة التاريخ عموما، وميزانا لتمييز حقائقه عن الأباطيل التي قد تعلق به.

يتبين لك من هذا أن كتابة السيرة النبوية، كانت البوابة العريضة الهامة التي دخل منها المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموما، وأن القواعد العلمية التي استعانوا بها لضبط الروايات والأخبار، هي ذاتها القواعد التي أبدعتها عقول المسلمين شعورا منهم بالحاجة الماسة إلى حفظ مصادر الإسلام وينابيعه الأولى من أن يصيبها أي دخيل يعكرها.

[كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:]

تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية. فلا جرم أن كتابة السنة، أي الحديث النبوي، كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما. إذ السنة بدأت كتابتها، كما هو معلوم، في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بإذن، بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام. وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما.

أما كتابة حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومغازيه بصورة عامة، فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها..

ولعل أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى ٩٢ هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى ١٠٥ هـ ثم وهب بن منبه المتوفى ١١٠ هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى ١٢٣ هـ ثم ابن شهاب الزهري المتوفى ١٢٤ هـ.

إن هؤلاء يعدون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، كما تعد كتاباتهم طليعة هذا العمل العلمي العظيم، بل تعد الخطوة الأولى- كما ألمحنا- إلى كتابة التاريخ والاهتمام به عموما، هذا بقطع النظر عن أن الكثير من أحداث السيرة منثور في كتاب الله تعالى، وفي بطون كتب السنة التي تهتم من سيرته صلّى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، لا سيما ما يتعلق منها بالتشريع.

غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء. ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري. ويقال إن بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا.

ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقف كل ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه. ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام ١٥٢ هـ. وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة

<<  <   >  >>