للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيا: كنا قد قلنا في القسم الأول من هذا الكتاب، إنه لا يجوز للمسلم المقام في دار الكفر أو الحرب إن لم يمكنه إظهار دينه، ويكره له ذلك إن أمكنه إظهار دينه، والذي يدل عليه هذا المشهد من سيرته صلّى الله عليه وسلم أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان مقام المسلم في دار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك، فذلك من أنواع الجهاد الذي تتعلق مسؤوليته بالمسلمين كلهم على أساس فرض الكفاية الذي إن قام به البعض قياما تاما سقطت المسؤولية عن الباقين، وإلا اشتركوا كلهم في المأثم «٣٨» .

ثالثا: إذا تجاوزنا ما ينطوي عليه كل من حادثتي الرجيع وبئر معونة من دلالة واضحة على مدى ما كانت تفيض به أفئدة المشركين من غل وحقد على المؤمنين، حتى إنهم ارتضوا لأنفسهم أحط مظاهر الخيانة والغدر ابتغاء إطفاء غليل أحقادهم على المسلمين- أقول إذا تجاوزنا ذلك- وقفنا على صورة رائعة لعكس هذه الطبيعة تماما لدى أولئك المسلمين الذين راحوا ضحية تلك الخيانة والأحقاد. فقد رأيت كيف حبس خبيب رضي الله عنه أسيرا في بيت بني الحارث في انتظار ساعة قتله، وكان قد استعار شفرة ليصلح بها شأنه ويتطهر استعداد للموت، وفي البيت طفل صغير راح يدرج نحوه في غفلة من أمه، ولقد كانت هذه اللحظة، في حساب من يتعلق بالحياة ويفكر في الانتقام، فرصة رائعة لمساومة أو غدر في مقابل غدر. ولقد كان هذا هو حساب أهل البيت كلهم، فما إن انتبهت أم الطفل إلى انصرافه نحو خبيب حتى هبت مذعورة لتخلصه من براثن موت مؤكد! .. ولكنها وقفت مندهشة عندما رأت طفلها وقد أجلسه خبيب في حجره يلاطفه كأنه أب شفوق! .. ونظر إليها وقد ألّم بما في نفسها من الخوف، وقال لها في هدوء المؤمن الحليم: «أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله» .

فانظر إلى معجزة التربية الإسلامية للإنسان!. خبيب هذا، وأولئك المشركون الحاقدون الذين راحوا يصنعون له الموت ظلما وعدوانا، عرب أنبتتهم أرض واحدة وأظلتهم طبائع وتقاليد واحدة، ولكن خبيبا اعتنق الإسلام فأخرجه الإسلام إنسانا آخر، وأولئك عكفوا على ضلالاتهم، فحبستهم ضلالاتهم في طبائعهم المتوحشة الغادرة، فما أعظم ما يفعله الإسلام في الطبيعة الإنسانية من تغيير وتحويل! ..

رابعا: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم.

فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقبا الفرصة مؤملا الخلاص كما فعل خبيب وزيد.


(٣٨) راجع مغني المحتاج: ٤/ ٢٣٩

<<  <   >  >>