للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالريّ حتى صدروا عنه «١» ، فبيما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر معه، فقال:

إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل «٢» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا (أي استراحوا) ، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق بديل فحدّث قريشا بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود يعرض على المشركين أن يأتي النّبي صلّى الله عليه وسلم فيكلمه في تفصيل ما جاءهم به بديل بن ورقاء. فقالوا له دونك فاذهب.

فذهب، فكلّمه النّبي صلّى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به بديلا، فقال له عروة: أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس (أي أخلاطا منهم) خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه! ..

فالتفت قائلا: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. فقال: أما إنه لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك «٣» . ثم جعل يكلّم النّبي صلّى الله عليه وسلم فكلما تكلّم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال له أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس «٤» ؟

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له.

فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر


(١) هذه من رواية البخاري في كتاب الشرط وابن إسحاق وغيرهما. وقد ذكر البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث. وقال: إنه جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبّه فيها. ثم قال دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الأمران واقعين معا. وأما حديث أنه صلّى الله عليه وسلم وضع يده في ركوة ماء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فتلك واقعة أخرى غير هذه. وكل ذلك ثابت صحيح.
(٢) العوذ جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن والمطافيل الأمهات من النوق إذا كان معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا بكل ما يحتاجون حتى لا يرجعوا إلا بعد أن يمنعوا المسلمين من دخول مكة.
(٣) اليد النعمة، واليد التي يقصدها عروة، أن عروة كانت تحمل دية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن.
(٤) أراد عروة بذلك أن المغيرة بن شعبة قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا فودى له عروة المقتولين.

<<  <   >  >>