للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لغا كثير من الكتاب المعاصرين في أمر هذا العزل، محاولين أن يجعلوا منه سبيلا للانتقاص من مكانة خالد رضي الله عنه.

غير أن تفسير هذا العزل واضح في عمل عمر نفسه، وفي كلامه الذي قاله عن خالد، وما تضمنه من الثناء عليه. فقد قال له، كما أسلفنا: والله يا خالد إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب. وكتب إلى أهل المصر يوضح سبب عزله له قائلا: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن عزلته شفقة على النفوس من سرعة هجماته وشدة صدماته «٩» .

ولما أخبر عمر بمرض خالد، وكان عمر على مسيرة ثلاثة أيام من المكان الذي فيه خالد وهو المدينة، طوى هذه المسافة في ليلة واحدة. فأدركه وقد قضى نحبه، فاسترجع ورقّ عليه، وجلس عند باب داره حتى تمّ تجهيزه. ولما بكته البواكي قيل لعمر ألا تسمع؟ ألا تنهاهن؟ فقال:

وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع ولا لقلقة؟

ولما خرج عمر في جنازته رأى امرأة محرمة تبكيه فقال: من هذه؟ فقيل له: أمه. فقال:

أمّه؟ واها له، قالها ثلاثا. ثم قال: وهل قامت النساء عن مثل خالد «١٠» ؟

ثانيا- هذا الذي ذكرناه يقتضي أن خالدا توفي ودفن في المدينة. وإلى ذلك ذهب بعض المؤرخين. غير أن الجمهور ذهبوا إلى أن الصحيح أنه توفي ودفن في حمص، وهو ما رجّحه ابن كثير في البداية والنهاية. إذ الثابت أن خالدا اعتمر بعد أن عزله عمر ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات سنة إحدى وعشرين.

وعلى كل حال، فإن لسان عمر كان لسان ثناء على خالد، سواء في حياته وبعد مماته. روى ابن كثير عن الواقدي أن عمر رأى حجاجا قد قدموا من حمص، فقال: هل من خبر نعرفه؟

قالوا: نعم، مات خالد. فاسترجع عمر، ثم قال: كان والله سدادا لنحور العدوّ ميمون النقيبة.

غير أن ثناءه عليه لا يتعارض مع بعض المواقف الاجتهادية التي قد يختلف فيها رأي كل منهما عن الآخر، فيعمل كل منهما بالرأي الذي يراه.

وليت أن الذين ينتقصون من مكانة خالد لموقف عمر منه أو ينتقصون من مكانة عمر للموقف ذاته، يحيطون بالأمر من أطرافه، ويفرقون بين الموقف الاجتهادي المأجور عليه على كل حال، والانحراف الفكري أو السلوكي الذي يتنزه عنه أصحاب رسول الله.

ثالثا- من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر، ذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلي رضي الله عنهما، فقد كان عليّ هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات.


(٩) البداية والنهاية: ٧/ ٨١
(١٠) المرجع ذاته.

<<  <   >  >>