للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لعلك علمت مما ذكرناه آنفا، أن ملاحقة قتلة عثمان بالقصاص، لم يكن محل خلاف قط، كل ما في الأمر أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم، كانوا حريصين على أن يكون تنفيذ القصاص في حق أولئك القتلة، أول الأعمال التي يفتتح بها عليّ رضي الله عنه خلافته وعهده.. أما عليّ فكان يرى ضرورة البدء بتوطيد الأمور وإعادة النظام، ثم السعي إلى اقتناص قتلة عثمان والإحاطة بهم، بطرق أكثر هدوءا ولباقة.

وهذا الذي كان يراه عليّ رضي الله عنه ويحرص عليه، هو الأساس الذي جنح إليه الطرف الآخر، وتمّ بموجبه الصلح، وقرر الجميع، بمن فيهم عائشة وطلحة والزبير- بكل ثقة وطمأنينة- وضع الأمر بين يدي علي يعالجه بما يرى من الحكمة، ما دام الكل متفقين على ضرورة ملاحقة القتلة وإنزال القصاص بهم. وعلى هذا الأساس اتفقت الأطراف على أن يتخلوا عن هذه المهمة التي حملوا أنفسهم مسؤولية إنجازها، وقرروا الرجوع، كلّ إلى داره وبلده.

ثانيا- إذن، فما الذي عاقهم عن تطبيق هذا الذي اتفقوا عليه، وصدّهم عن المضيّ فيما قرروه من وضع الأمر بين يدي عليّ والتعاون معه في كل شيء؟

لقد رأيت أن الذي عاقهم إنما هو الكيد الذي خطط له أبطال الفتنة، وفي مقدمتهم (ابن السوداء) عبد الله بن سبأ، فقد قرروا- وقد أفزعهم اتفاق المسلمين- أن يندسّوا بين الصفوف، ثم يفاجؤوا الطرفين، في غبش الظلام، بالسيوف ينهالون بها عليهم على غير هدى، لتزول الثقة وتندلع الفتنة فيما بينهما، وليحسب كل طرف أن الطرف الآخر فاجأه بالمكيدة من وراء ستار الصلح والتظاهر به.

وهذا ما قد تمّ بالضبط. ومثل هذا الكيد عمل سهل رخيص، لا يتوقف على أكثر من طبيعة لئيمة، وإنسانية ممسوخة متراجعة.

ولكن ماذا كان يمكن أن يفعل أولئك الصحابة الذين صفت نفوسهم من كل مكيدة وزغل، سوى أن يردوا عنهم تلك الهجمات المباغتة، وما الذي يمكنهم أن يفهموه من تفسيرها سوى أنها غارة مبيتة خطط لها من الطرف الآخر؟ .. ومع ذلك فقد رأيت أن الواحد منهم كان إذا تعرّف على من يواجهه، كفّ كل منهما يده عن صاحبه وقابله بالاعتذار والندم.

إذن، فإن هذه الفتنة لم تنبعث من رعونة هيمنت على نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، سواء أكانوا من هذا الطرف أو ذاك، وإنما انبعثت من دخلاء مدسوسين، كانوا يمكرون، بلؤم، بحقّ الصحابة كلهم، دون أي تفريق بين طرف وآخر.

والعجيب، بعد هذا، أنك تقرأ كثيرا مما كتب عن هذه الفتنة، فلا تجد شيئا منها ينبه إلى أصابع الفتنة هذه ويكشف عن دورها الخطير في كل هذا الذي قد حدث؛ وإنما يتحدث الكل عن

<<  <   >  >>