للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن هنا أنشأ أقطاب تلك المدرسة ما زعموه (الإصلاح الديني) ، والدين الصحيح ما كان يوما ليفسد حتى يحتاج إلى مصلح أو إصلاح، وكان من مظاهر هذا (الإصلاح) ظهور أول تجربة تحاول تحليل حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم تحليلا يسير في خضوع منكسر وراء العقلية الأوربية وتحت لواء ما زعموه (العلم الحديث) . أجل فلقد كان كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل التجربة الرائدة في هذا المضمار أعلن فيه الرجل أنه لا يريد أن يفهم حياة محمد عليه الصلاة والسلام إلا كما يأمر به (العلم) ، ولذلك فلا خوارق ولا معجزات في حياته عليه الصلاة والسلام؛ إنما هو القرآن، والقرآن فقط. وتذكر الكاتب أن يستشهد في هذا بقول البوصيري:

لم يمتحنا بما تعي العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم

ونسي أن يقف عند قوله في القصيدة ذاتها:

جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم

وانبرى الشيخ المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك، يقرظ الكتاب ويبارك الخطوة الرائدة، وانطلق محمد فريد وجدي هو الآخر ينشر سلسلة مقالاته داعيا فيها إلى فهم الإسلام والسّيرة النّبوية عن طريق (العلم) ، ولو اقتضى ذلك الإعراض عن الخبر الصادق الذي ثبت في الكتاب أو السّنة، وإنما كان يقصد ب (طريق العلم) أن لا يستسلم العقل للغيبيات ولا الخوارق والمعجزات وإن جاء بها الخبر الصادق المتواتر، كأن العلم إنما يتحقق بإنكار كل ما لم يقع تحت حسك وشعورك!!

٥- ومعلوم كيف استغل الاحتلال البريطاني في مصر إذ ذاك، هذا الفهم الجديد للإسلام عند طائفة من أقطاب الفكر وحملة القلم، استغله في إضعاف الوازع الديني في أفئدة المسلمين، (وأي وازع ديني يبقى في نفس من أنكر فكرة المعجزة من أساسها في الدين، وهل الدين شيء غير معجزة الوحي الإلهي إلى رسله وأنبيائه؟) فراحت التربية الاستعمارية تباعد بين المسلمين ومنهجهم الإسلامي، وتقيم بينهم وبينه منهجا آخر، كل ما فيه من المؤيدات أنه منهج أوربي عريق! ..

٦- ثم مرت الأزمنة وتوالت السّنوات، فتبيّن لكل باحث منصف، أن تلك المدرسة لم تكن على شيء من التأمل الفكري الحر ولا من البحث العلمي النّزيه، وإنما كانت ردّ فعل أثاره الانبهار والشعور بالضعف لدى طائفة من المسلمين، تهيأ لها بسبب ظروف خاصة أحاطت بها، أن تطلع على الحياة الأوربية فتستهويها زخرفها وملذّاتها، فاتّخذوا من نزوات نفوسهم حاكما مسلطا على عقولهم واصطنعوا بذلك مدرسة فكرية ظاهرها (الإصلاح الديني) وباطنها الاستخذاء النفسي والانبهار الفكري بين يدي نهضة الغرب.

<<  <   >  >>