للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدّين موهومة أو منفيّة الوقوع.

ويقرّر العزّ بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد قائلا:

«فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة، ليس في طيّها مصلحة» «٢» .

قلت: وتقديم مصلحة النفس هنا، من حيث الظاهر فقط.

أمّا من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دين، إذ المصلحة الدّينية تقتضي- في مثل هذه الحال- أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. وإلّا فإن هلاكهم يعتبر إضرارا بالدّين نفسه وفسحا للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السّبل.

والخلاصة: أنه يجب المسالمة أو الإسرار بالدعوة إذا كان الجهر أو القتال يضرّ بها، ولا يجوز الإسرار في الدعوة إذا أمكن الجهر بها وكان ذلك مفيدا، ولا يجوز المسالمة مع الظالمين والمتربصين بها إذا توفرت أسباب القوة والدفاع عنها، ولا يجوز القعود عن جهاد الكافرين في عقر دورهم إذا ما توفرت وسائل ذلك وأسبابه.

٢- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

وتحدثنا السّيرة أن الذين دخلوا في الإسلام، في هذه المرحلة، كان معظمهم خليطا من الفقراء والضعفاء والأرقاء، فما الحكمة في ذلك؟ وما السّر في أن تتأسس الدولة الإسلامية على أركان من مثل هؤلاء الناس؟

والجواب: إن هذه الظاهرة هي الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى، ألم تر إلى قوم نوح كيف كانوا يعيّرونه بأن أتباعه الذين من حوله ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم:

ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ.. [هود ١١/ ٢٧] .

وإلى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى أذلاء مستضعفين، حتى قال عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون وأشياعه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف ٧/ ١٣٧] . وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحا، كيف تولى عنه الزعماء المستكبرون، وآمن به الناس المستضعفون، حتى قال الله في ذلك: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف ٧/ ٧٥- ٧٦] .


(٢) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ١/ ٩٥، وانظر ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: ٢٦١

<<  <   >  >>