للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل وليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي.. فإن صنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول» .

فقال لهم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا» .

ثم إنهم قالوا له- بعد طول كلام وخصام-: «إنا قد بلغنا أنه إنما يعلّمك هذا، رجل في اليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا. ثم قاموا وانصرفوا عنه» .

[العبر والعظات:]

في هذا المشهد الذي عرضناه من سيرته صلّى الله عليه وسلم ثلاث دلالات، كل واحدة منها على جانب كبير من الأهمية.

الدلالة الأولى: وهي توضح لنا في تمحيص دقيق حقيقة الدعوة التي قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفصلها عن كل ما قد يلتبس بها من الأهداف والأغراض التي قد يضمرها في أنفسهم عادة أرباب الدعوات الجديدة والمنادون بالثورة والإصلاح.

هل النبي صلّى الله عليه وسلم يضمر من وراء دعوته الوصول إلى ملك؟ أو لعله يضمر الوصول إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى، أو لعل الأمر لا يعدو خيالات تتراءى له بسبب مرض يعانيه؟

كل هذه الاحتمالات، وسائل قد يتذرع بها محترفو الغزو الفكري وأعداء هذا الدين.. ولكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله! .. لقد ملأ الله عز وجل حياة رسوله بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال، وتقطع السبيل إلى كل وسواس، وتدع أرباب الغزو الفكري حيارى في الطريقة التي ينبغي لهم أن يسلكوها في حربهم الفكرية.

كان من جليل حكمة الله تعالى أن يقوم مشركو قريش بسلسلة من المفاوضات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد أن صوروا في أنفسهم كل هذه الاحتمالات، وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته والغاية البعيدة من رسالته وبأنه لن ينزل عند شيء من مغرياتهم. ولكن هكذا شاءت الإرادة الإلهية حتى ينطق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من محترفي التشكيك والغزو الفكري مع الزمن.

لقد فكر أمثال كريمر وفان فلوتن طويلا.. ثم لم يجدوا من سبيل لأداء مهمة التشكيك والغزو إلا أن يغمضوا أعينهم عن الحقيقة ويزعموا أن دوافع محمد عليه الصلاة والسلام في دعوته إنما كانت الرغبة في السيادة والملك، وإن صدموا رؤوسهم في هذا الزعم بصخور عاتية تقذفهم وتردهم إلى الوراء أشواطا.

<<  <   >  >>