للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد سخر الله من قبلهم عتبة بن ربيعة وأمثاله، لحمل هذه الدوافع والآمال ووضعها بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام لينالها قريبة سائغة وليبصر قريشا كلها وقد دانت له وألقت من يدها ما رفعته من السلاح ووسائل التعذيب في وجهه ووجه أصحابه، فلماذا لم يلن الرسول لهم، ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه مادام أنها الدافع له من وراء رسالته ودعوته؟

وهل ينصت طالب الملك والزعامة لمن سعى يعرضهما عليه، في مفاوضة طويلة وتخويف ورجاء وتهديد، ليقول لهم أخيرا: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا.. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ؟!.

ثم إن معيشته الحياتية كانت مطابقة لكلامه هذا، فهو لم يعرض عن الزعامة والملك بلسانه، ليصل إليهما خلسة بسعيه وعمله. بل كان صلّى الله عليه وسلم بسيطا في مأكله ومشربه، لا يعلو عما عليه حالة الفقراء والمساكين. قالت عائشة فيما يرويه البخاري: «لقد توفي النبي صلّى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليّ» . ويقول أنس رضي الله عنه فيما يرويه البخاري أيضا: «لم يأكل النبي صلّى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزا مرققا حتى مات» .

وكان بسيطا للغاية في ملبسه وأثاث بيته، يؤثر في جنبه الحصير وما عرف أنه نام قط على شيء وثير. حتى إن نساءه جئن إليه يوما وفيهن السيدة عائشة رضي الله عنها يشتكين إليه الفاقة ويطالبنه بمزيد من النفقة لزينتهن ولباسهن حتى لا تكون إحداهن أقل شأنا من مثيلاتها من نساء الصحابة، فأطرق مغضبا ولم يجب ثم نزل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب ٣٣/ ٢٨، ٢٩] ، فتلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن هاتين الآيتين، ثم خيرهن بين قبول العيش معه على الحالة التي هو فيها، أو الإصرار على مطالبهن من النفقة وزيادة الزينة والمال وحينئذ يفارقهن ويسرحهن سراحا جميلا، فاخترن العيش معه على ما هو عليه «١٠» .

فكيف يشك العقل- أيّ عقل- بعد هذا كله، في صدق نبوته، وكيف يصح أن يتوهم الفكر أو الخيال بأنه قد يكون مدفوعا برغبة الزعامة أو الطمع في الغنى؟ .. فهذه هي الدلالة.

الأولى التي تؤخذ من هذا المشهد الذي ذكرناه.


(١٠) رواه البخاري، وانظر تفسير ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين.

<<  <   >  >>