للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

«إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قريش قائلا:

انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون» .

ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي: «أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون» . فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: «نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» .

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: «والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود» .

ثم ردّ إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به، وعاد الرسل إلى قريش خائبين.

وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة، فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيا وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلا. وكان من بين من دخل بجوار، عثمان بن مظعون، دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة دخل بجوار أبي طالب.

[العبر والعظات:]

نأخذ من حديث هجرة المسلمين إلى الحبشة ثلاث دلالات:

الدلالة الأولى: إن الدين والاستمساك به وإقامة دعائمه، أساس ومصدر لكل قوة، وهو السياج لحفظ كل حق من مال وأرض وحرية وكرامة، ومن أجل هذا كان واجب الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله أن يجندوا كل إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه، وأن يجعلوا من الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها، وجب بذله.

ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه، لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أيضا من ورائه، أما إذا قوي شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته، فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود.. يعود أقوى من ذي قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة..

ولقد جرت سنّة الله في الكون على مرّ التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية. فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في

<<  <   >  >>