للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ورضضتها، وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثا.

فانظر كيف انتهى الحصار بالمسلمين؟! وكيف أضناهم الحرمان، وألجأهم أن يطعموا ما لا مساغ له؟!. وقد أحزنت تلك الالام بعض ذوي الرحمة من قريش، فكان أحدهم يوقر البعير زادا، ثم يضربه في اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين، فيخفّف شيئا مما بهم من إعياء وفاقة..

كم بقيت هذه الضائقة؟ ثلاث سنين كالحة، كان رباط الإيمان واحده هو الذي يمسك القلوب، ويصبّر على اللأواء..

ومن الطبيعي أن يستعجل المسلمون الخروج من هذه المازق، لطالما وعدوا بالنصر والتمكين، فما وجدوا إلا الرّوع والسّغب! وها هم أولاء محرجون في أرض تنكرت لهم، واقشعرّت تحت أقدامهم، ولا ريب أنّ قلوبهم امتلأت غيظا على أولئك المشركين، الذين سخروا من جميع القيم الفاضلة، وكفروا بانتصارها في الدنيا كفرهم بمجيء اليوم الاخر، ولو لم يطلب أولئك المعذّبون النصر لينقذهم من بأسائهم، لطلبوه كي يخزوا به المكذّبين ويؤدّبوا المتوقحين، بيد أنّ الوحي كان ينزل فيطالب المسلمين باليقين والثبات، دون ارتقاب لهذه النتائج المتوقعة، يجب أن يجمدوا على حقائق الإيمان التي عرفوها، وأن يستمدّوا من سموّها وصدقها ما يراغمون به الأيام والأحداث:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) [يونس] .

وكان المشركون أيضا يتعجّلون خاتمة الصراع بينهم وبين أولئك المسلمين؛ يتعجّلون لأنّهم يضحكون منها، فما يثقون ببعث أو جزاء، ولا يظنّون أبدا أن يوما قريبا أو بعيدا سينشق فجره، فإذا مكة خالية من الأصنام، وإذا أذان التوحيد يرنّ في أرجائها، وإذا المحصورون في الشّعب هم أصحاب الأمر والنهي، والسادة الحاكمون بأمرهم اليوم أسرى يرجون العفو!! وكان يقينهم من أنّ اليوم والغد لهم يزين لهم الاستهزاء بهذا الوعد والتعريض به:

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ

<<  <   >  >>