للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الناس من يتعشّق الجمال، ويجري وراء النّساء، ويجد في المتعة بهن نهمته، التي يسكن بعدها، ويستكين، ويقول:

لا أرى الدّنيا على نور الضّحى ... بل أرى الدّنيا على نور العيون

ومنهم من يبحث عن المال، ويقضي سحابة نهاره وشطر ليله يتتبّع الأرقام في دفاتره، يحصي ما وقع في يده، ويتربّص بما لم يقع، وربما ذهل عن طعامه ولباسه في غريزة الاقتناء التي سدّت عليه المنافذ.

[[النفس العظيمة] :]

إلى جانب هذه الأصناف تجد فريقا اخر من البشر، لا يطيق الكفّ عن إسداء الجميل، وبذل النصيحة، ورعاية الصالح العام، وإفناء ذاته في سبيل الفضائل التي ملكت لبّه، وعمرت قلبه ...

إنه يبيت مسهّدا لو فرّط في واجب ... راحته الكبرى في نشدان الكمال، وسعادته القصوى يوم يدرك منه سهما ...

وأصحاب الرسالات رهناء ما تحمّلوا من أمانات ضخمة، فمغانمهم ومغارمهم وحلّهم وترحالهم، وصداقتهم وخصومتهم، ترجع كلّها إلى المعاني التي ارتبطوا بها وحيوا لأجلها ...

وصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ضرب من نفسه المثل الفذ للمكافحين، فمنذ أخذ على عاتقه تمزيق الأسداف التي ألقت على العالم ليلا كثيفا من الشرك والخرافة؛ لم يفلح أحد في ثنيه عن عزمه، أو تعويق مسيره، أو ترضيته برغبة، أو ردعه برهبة، وفنيت أمام عينيه فوارق الزمان والمكان، فالغريب عنه إذا عرف الحقّ قريب، ووطنه إذا تنكّر للهدى فهو منه بريء، والمؤمنون به اخر الدهر هم إخوانه، وإن لم يشاهدوه.

ولقد عاش في مكة ثلاثة وخمسين عاما حتى ألفها وألفته، لكنّه اليوم يخرج منها إلى وطن جديد، يرى فيه امتداد قلبه، وثمار غرسه.

والرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم، ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم، لا يكرّمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون.

فلا غرو إذا دخل محمد صلى الله عليه وسلم المدينة دخول الوامق المعتزّ.. واستبشر بما اتاه الله فيها من فتح، وتوسّم من وراء هذه الهجرة بشائر الخير والنصر:

<<  <   >  >>