للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلّت مؤنته من عمل.

ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها.

إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى.

إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، فأيّ حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه.

وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوّة أن تدع اثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال.

وقد استفدت من السير التي كتبها القدامى والمحدثون استفادة حسنة.

إن المؤرّخين المحدثين يميلون إلى التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وذاك أحسن ما في طريقتهم.

والمؤرّخون القدامى يعتمدون على حشد الاثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دقّ وجلّ من الوقائع والشؤون؛ وفي هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو أحسن الاستشهاد بها وإيرادها في مواضعها.

ولعلّي هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشدّ أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الاخرى بحيث تتسق مع واحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته.

وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله.

إنني أكتب في السيرة كما يكتب جنديّ عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست- كما قلت- مؤرّخا محايدا مبتوت الصلة بمن يكتب عنه.

<<  <   >  >>