للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كانت (مكة) على عهد البعثة تموج بحركة عاصفة من الشهوات والماثم، وكان الرجال الذين يحيون فيها أمثلة قوية لنضج الأهواء، وشلل الأفكار، أو نمائها في ظلّ الهوى الجامح ولخدمته واحده.

كفر بالله واليوم الاخر، إقبال على نعيم الدنيا، وإغراق في التشبّع منه، رغبة عميقة في السيادة والعلو ونفاذ الكلمة، عصبيات طائشة تسالم وتحارب من أجل ذلك، تقاليد متوارثة توجه نشاط الفرد المادي والأدبي داخل هذا النطاق المحدود.

من الخطأ أن تحسب (مكة) يومئذ قرية منقطعة عن العمران في صحراء موحشة، لا تحس من الدنيا إلا الضرورات التي تمسك عليها الرمق، كلّا، إنها شبعت حتى بطرت، وتنازعت الكبرياء حتى تطاحنت عليها، وكثر فيها من تغلغل الإلحاد في أغوار نفسه حتى عزّ إخراجه منه؛ فهم بين عم عن الصواب، أو جاحد له، وفي هذا المجتمع الذي لم ينل حظا يذكر من الحضارة العقلية بلغ غرور الفرد مداه، ووجد من يسابق فرعون في عتوّه وطغواه.

قال عمرو بن هشام «١» - معلّلا كفره برسالة محمد صلى الله عليه وسلم-: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتّى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه! والله لا نؤمن به، ولا نتّبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه!!.

زعموا أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك! لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا!.

وهذه السفاهات العاتية، لم تنفرد مكة بها، فما كان كفر عبد الله بن أبي في المدينة إلا لمثل هذه الأسباب.

ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة- يعود سعد بن عبادة في مرض أصابه قبل وقعة بدر، فركب حمارا وأردف وراءه أسامة بن زيد، وسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد الله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدّابّة خمّر ابن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القران..


(١) هو أبو جهل.

<<  <   >  >>