للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وخرج الدعاة من المدينة، حتى بلغوا (بئر معونة) وكانوا سبعين من خيار المسلمين، يعرفون بالقرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلّون بالليل، ويحيون على هذا النّسق الرتيب من جهاد للحياة ورغبة في الاخرة.

فلما أمرهم الرسول بالمسير لإبلاغ رسالات الله خرجوا، وما كانوا يعرفون أنهم- جميعا- يحثّون الخطا إلى مصارعهم في أرض انتشر الغادرون في فجاجها.

وحينما انتهى القرّاء إلى (بئر معونة) بعثوا أحدهم- حرام بن ملحان- إلى (عامر بن الطفيل) رأس الكفر في هذه البقاع، فأعطاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فلم ينظر عامر في الكتاب، وأمر رجلا من أتباعه أن يغدر بحامل الرسالة، فما شعر حرام إلا وطعنة نجلاء تخترق ظهره، وتنفذ من صدره، وكأنّ هذه الشهادة المفاجئة لاقت رجلا يتمنّاها من قديم، فقد صاح حرام على إثر ذلك: فزت وربّ الكعبة!.

ومضى عامر في غشمه، فاستصرخ أعوانه، ليواصلوا العدوان على سائر القوم، فانضمت إليه قبائل رعل وذكوان والقارة؛ فهجم بهم عامر على القرّاء الوادعين.

ورأى هؤلاء الموت مقبلا عليهم من كلّ صوب، فهرعوا إلى سيوفهم، يدفعون عن أنفسهم دون جدوى؛ إذ استطاع الأعراب الهمج أن يغشوهم في رحالهم، وأن يستأصلوهم عن اخرهم.

وكان في سرح القرّاء اثنان لم يشهدا هذه المأساة، منهم (عمرو بن أمية الضمري) ولم يعرفا النبأ المحزن إلا من أفواج الطير المتوحّشة تنطلق نحو المعسكر، محوّمة حول الجثث الملقاة على الرمل الأعفر، طاعمة مما تستطيع اختطافه بأظافرها ومناقرها. قالا: والله إنّ لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم مضرّجون في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة! قال زميل عمرو له:

ماذا ترى؟ قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نقصّ عليه الخبر، لكنّ زميله كره هذا الرأي، وكان له بين من استشهدوا صديق حميم يدعى المنذر؛ لذلك


- عن ابن إسحاق كما في (المجمع) : ٦/ ١٢٨- ١٢٩؛ ورواه الطبراني أيضا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه نحوه، قال الهيثمي: «ورجاله رجال الصحيح» .

<<  <   >  >>