للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأخذو يتجهّزون للرحيل، بيد أنّ منافقي المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي أرسلوا إليهم: أن اثبتوا، ونحن ننصركم على محمّد وصحبه! فعادت لليهود ثقتهم، واستقرّ رأيهم على المناوأة، وأرسلوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: لن نخرج، فافعل ما بدا لك، ثم احتموا بحصونهم، واستعدّوا للقتال، وزادهم إصرارا على المقاومة ما ترامى إليهم من أنّ ابن أبيّ أعدّ ألفي مقاتل لنصرتهم.

ونهض النبي صلى الله عليه وسلم لمناجزة القوم، وتحدّى من ينضمّ إليهم من قبائل اليهود الاخرى، أو من مشركي العرب، وفرض الحصار على مساكن بني النضير، وأمر بتقطيع نخلهم «١» ، ثم جدّ الجدّ، ورأى اليهود الموت، ووقع الرعب في قلوب أعوانهم، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، مع أنّ اشتباك المسلمين بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إنّ يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره؛ إلا أنّ الحال التي جدّت بعد مأساة (بئر معونة) وما قبلها، زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر، التي أخذوا يتعرّضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثمّ قرروا أن يقاتلوا بني النضير بعد همهم باغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما تكن النتائج.

وقد جاءت النتيجة في مصلحتهم بأسرع مما يتصورون، فاندحر اليهود، ونزلوا على حكم المنتصر، الذي أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال ما عدا السلاح! «٢» .

وفي هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود في صدرها بقول الله عز وجلّ:

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ


(١) هذا الأمر صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر.
(٢) رواه الحاكم: ٢/ ٤٨٣، من حديث عائشة، وفيه نزول الاية الاتية؛ وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي! وإنّما هو صحيح فقط، لأنّ زيد بن المبارك الصنعاني وشيخه محمد بن ثور ليسا من رجالهما.

<<  <   >  >>