للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قريش في عشرة الاف من رجالها ومن تبعهم من (كنانة) و (تهامة) و (غطفان) في طليعة قبائل (نجد) .

وبرز المسلمون بعد ما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الاطام الحصينة من يثرب، ثم انتشروا على حدود مدينتهم، مسندين ظهورهم إلى جبل سلع، ومرابطين على شاطئ الخندق الذي احتفروه بعد جهود مضنية، وبلغت عدتهم في هذه المعركة نحو ثلاثة الاف مقاتل.

علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة ممهدة ليس طريق النصر؛ فما عسى أن تصنع قلة مؤمنة مكافحة مع هذا السيل الدافق؟!.

لذلك لجأ إلى هذه المكيدة، ويروى أن الذي أشار بها (سلمان الفارسي) وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم رجاله لإحكامها وإنجازها، فأخذ يحفر بيده، ويحمل الأتربة والأحجار على عاتقه، وتأسّى به الرجال الكبار، ممن لم يألفوا هذا العمل قط، فشهدت يثرب منظرا عجيبا، وجوها ناصعة تتألّف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس، وتحمل المكاتل، وتتعرّى من لباسها وزينتها لتلبس حلالا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب.

قال البراء بن عازب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرّ بطنه وهو يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا «١»

وهذا الغناء من شعر عبد الله بن رواحة، كان المشتغلون في الخندق يزيحون التعب عن أعصابهم بالاستماع إلى نغمه، وترديد الكلمات الأخيرة من مقاطعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ صوته بها معهم، فيقول: لاقينا، أبينا «٢» ، مما يعيد إلى أذهاننا صور (الفعلة) الذين يحفرون الترع بالريف، أو يبنون القصور بالمدن.


(١) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
(٢) حديث صحيح، وهو رواية للبخاري عن البراء بن عازب.

<<  <   >  >>