للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنّ الدفاع عن الإسلام ومخافة الفتنة لو انتصر المشركون جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يعالجون هذا العمل الثقيل ونفوسهم راضية مغتبطة مع ما يلقون فيه من عناء وصعوبة.

ولا تحسبنّ عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعميق الخندق وقذف أتربته من قبيل التمثيل الذي يحسنه بعض الزعماء في عصرنا، كلا، كلا.

إنّ الرجولة الكادحة الجادّة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة. يقول البراء: لقد وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر «١» .

أجل إنه استغرق في العمل مع أصحابه؛ فالرجولة الصادقة لا تعرف التمثيل.

وكان الفصل شتاء، والجوّ باردا، وهناك أزمة في الأقوات تعانيها المدينة التي توشك أن تتعرّض لحصار عنيف، وليس هناك أقتل لروح المقاومة من اليأس، فلو تعرّض المحصور لسوراته المقبضة فمزالق الاستسلام الذليل أمامه تنجرّ به إلى الحضيض، لذلك اجتهد النبيّ صلى الله عليه وسلم في تدعيم القوى المعنوية لرجاله، حتى يوقنوا بأنّ الضائقة التي تواجههم سحابة صيف عن قليل تقشع.

ثم يستأنف الإسلام مسيره بعد، فيدخل الناس فيه أفواجا، وتندكّ أمامه معاقل الظلم، فلا يصدر عنها كيد ولا تخشى منها فتنة.

ومن إحكام السياسة أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضني.

قال عمرو بن عوف: كنت أنا، وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرّن، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا- من الأرض التي كلّفوا بحفرها- فحفرنا حتى وصلنا إلى صخرة بيضاء كسرت حديدنا، وشقّت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن هذه الصخرة التي اعترضت عملهم، وأعجزت معاولهم.

فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ من سلمان المعول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها، وتطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو الداكن، وكبّر رسول الله عليه الصلاة والسلام تكبير فتح، وكبّر المسلمون. ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.


(١) حديث صحيح، أخرجه البخاري: ٧/ ٣٢٢.

<<  <   >  >>