للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وربما عاد الإخلال اليسير بفصاحة اللغة عند بعض الشعراء إلى تقصيرهم في امتلاك اللغة امتلاكا قويا، وهذا لا يعود إلى عجز الشاعر عن تمثل اللغة، وإنما إلى الازدواج اللغوي الذي يعاني منه في حياته، فالناس من حوله لا يتحدثون باللغة العربية الفصحى، وهو يتعامل معهم بلهجتهم العامية، ولا يتحدث باللغة الفصحى إلا في مجالس محدودة أو إلى نفسه عندما يريد أن يعبر عما فيها شعرا، وهذا يقلل من تمكن اللغة من نفسه، ويضعف من قدرته على تصريفها في أغراضه، والتعبير بها عن مراميه، ويوقعه في الركاكة والخطأ، وربما قصد إلى ذلك ليمتّن الصلة بينه وبين الناس، فيحاول أن يقترب في تعبيره من أفهامهم، واللغة التي اعتادوا عليها.

وإذا لم تكن اللغة التي ينظم بها الشاعر شعره لغة حياة، فإن ارتباطها بمشاعره وخياله يكون ضعيفا، فلا يأتي شعره كما يريد، ويصبح عاجزا عن أداء أفكاره ومشاعره أداء كاملا دقيقا، ويخرج أسلوبه مرتبكا، فيه آثار العامية التي تتعايش في نفسه مع الفصحى.

ولذلك عاد الشعراء إلى الشعر العربي القديم، يحاكونه ويعارضون قصائده، ويضمّنون أبياته، ويستعينون به في التعبير عن أغراضهم، فجاءت بعض قصائدهم خليطا غريبا من الشعر القديم ومن صنعة عصرهم، فهم يريدون إظهار معرفتهم بالتراث الشعري، وبراعتهم في استخدامه، ليعطيهم ذلك نوعا من الأصالة، ويريدون إثبات مقدرتهم على اصطناع فنون البديع التي فتن بها أهل عصرهم.

ويظهر هذا جليا في قول ابن نباتة، الذي عبّر فيه عن رغبته في إنشاء قصائد المدح النبوي:

فهل لي إلى أبيات طيبة مطلع ... به مخلص لي من إسار شقائي

أصوغ على الدّرّ اليتيم مدائحا ... أعدّ بها من صاغة الشّعراء

<<  <   >  >>