للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مشاعرهم الدينية، فتجاوزوا في المديح النبوي التقسيمات السابقة التي كانت تخص المدح بالجزالة والفخامة، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس سيدا أو بطلا فحسب، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك هاد وحبيب ومنقذ، تهفو إليه النفوس بخشوع وقداسة، فحقّ لمادحيه أن يفخّموا وأن يرققوا، وأن يجزلوا وأن يسهلوا.

ويظهر أن شعراء المدح النبوي في معظمهم كانوا في بداية أمرهم يميلون إلى التفخيم والإغراب في ألفاظهم، وهذا ما لاحظه الوتري، الذي قال في ذلك: «ورأيتهم أيضا قد مزجوها بألفاظ لغوية، لم يفهمها كثير من السامعين، ولا تطرب لها قلوب المشتاقين، فرققتها جهدي، وبذلت لها ما عندي، وأعرضت عن تلك الكلمات ما أمكنني، ويسر الله تعالى علي عوض ما أعوزني» «١» .

وقد عبّر الصفي الحلي الذي مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقصائد عدة عن ذلك، فإن بعض الأدباء انتقدوا شعره بخلوه من الألفاظ الغربية، وكأنهم يعدون غرابة اللفظ من دلائل فحولة الشاعر، وسعة ثقافته، فهم لا يرضون إلا عن الشعر الذي يجهد الشاعر فيه فكره باستجلاب غريب اللفظ والصنعة المعقدة، وغير ذلك من الأشكال التي تدل على إطالة التفكير، وعسر المواءمة، ولذلك ردّ الصفي الحلي على هذا النقد بأبيات قال فيها:

إنّما الحيزبون والدّردبيس ... والطّخا والنّقاخ والعلطبيس

لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئزّ النّفوس

وقبيح أن يسلك النّافر ال ... وحشيّ منها ويترك المأنوس

إنّ خير الألفاظ ما طرب السّا ... مع منه وطاب فيه الجليس

إنّما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس «٢»


(١) الوتري: معدن الإفاضات ص ٢.
(٢) ديوان الحلي: ص ٦٢٤.

<<  <   >  >>