للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحاول ابن جابر أن يجانس بين قوافيه، فجاء بالجناس الملفّق حين قال:

إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له

فإن زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله «١»

ويظهر أن أدباء ذلك العصر قد اشتطوا في اصطناع الجناس، حتى ضجّ بعضهم من ذلك، ومنهم ابن حجة المعروف بولعه بالبديع، فقال في خزانته: «أما الجناس، فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب. وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة» «٢» .

وليت شعراء ذلك العصر سمعوا هذه النصيحة، لكان لشعرهم طعم آخر، ونكهة غير التي عرفت عنه، فإنهم سدوا آذانهم أمام هذا التوجيه، ولم يسمعوا له ولغيره، ومضوا يجمعون في شعرهم ما قدروا عليه من فنون البديع، يتصنعون لذلك ويتكلفون، وهذا ما جعل شعرهم يشبه المتون العلمية أو السلاسل البديعية، فلو أخذنا نصا للقيراطي، مثلا من مقدمة مدحة نبوية، لوجدنا أنه قد نظم ليكون أمثلة تعطى في درس البديع، فهو يقول:

ذكر الملتقى على الصّفراء ... فبكاه بدمعة حمراء

ما لعين سوداء منّي نصيب ... بعد حبّي لعينها الزّرقاء

كلّ أبيات من بغى أقعدوها ... عند ركض الخيول بالإيطاء «٣»

فالشاعر ينتقل من جناس إلى طباق، ومن تورية إلى تضمين، ومن استخدام مصطلحات اللغة والنحو إلى مصطلحات العروض، وكأنه وضع هذه الفنون البديعية في البداية، ثم جمع بينها بواسطة الوزن والقافية، فلا يستطيع أحد أن يدعي أن الشاعر


(١) المقري: نفح الطيب ٢/ ٤٨٨.
(٢) ابن حجة: خزانة الأدب ص ٢١.
(٣) المجموعة النبهانية ١/ ١٣٧.

<<  <   >  >>