للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأسكنهم من غير كبر، ...

تجلّي نور الشهود في قلبه، لأنه حينئذ يذيب النفس ويصفّيها عن غش الكبر والعجب، فتلين وتطمئنّ للحق والخلق؛ بمحو آثارها، وسكون وهجها، ونسيان حقّها، والذهول عن النظر إلى قدرها.

ولمّا كان الحظّ الأوفر من ذلك لنبيّنا صلّى الله عليه وسلم كان أشدّ النّاس تواضعا. وحسبك شاهدا على ذلك أنّ الله خيّره بين أن يكون نبيّا ملكا؛ أو نبيّا عبدا؛ فاختار أن يكون نبيّا عبدا!! ومن ثمّ لم يأكل متّكئا بعد حتى فارق الدنيا.

وقال: «أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد» ، ولم يقل لشيء فعله خادمه أنس «أفّ» قطّ، وما ضرب أحدا من عبيده وإمائه، وهذا أمر لا يتّسع له الطبع البشري؛ لولا التأييد الإلهي، وكذا الأخبار الآتية فكلّها دالّة على شدّة تواضعه صلّى الله عليه وسلم.

(وأسكنهم) - بالنون- أي: أكثرهم سكونا (من غير كبر) .

قال الحافظ العراقيّ: روى أبو داود وابن ماجه؛ من حديث البراء:

فجلس وجلسنا كأنّ على رؤوسنا الطير. ولأصحاب «السنن» ؛ من حديث أسامة بن شريك: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كأنّما على رؤوسهم الطير.

وفي «الشمائل» للترمذي: أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا.

وفي «الشمائل» لأبي الحسن بن الضحاك؛ من حديث أبي سعيد الخدري:

دائب الإطراق. وسنده ضعيف. أي: دائم السكون.

وقوله «كأنّما على رؤوسهم الطير» كناية عن كونهم عند كلامه صلّى الله عليه وسلم على غاية تامّة من السكوت والإطراق، وعدم الحركة، وعدم الالتفات، أو عن كونه مهابين مدهوشين في هيئته، لما أنّ كلامه عليه أبّهة الوحي وجلالة الرسالة.

وأصل ذلك: أنّ سليمان عليه السلام كان إذا أمر الطير بأن تظلّل على

<<  <  ج: ص:  >  >>