للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهب التمسك بهذا المفهوم أيضا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض آخر سواه فى تخصيص ذلك الاسم، وحيث ظهر غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض فى الآية التعميم فى جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفى الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره. وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفى عن غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح.

والخلاف فيه مبنى على الخلاف فى اشتقاق «الناس» ، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الأنس ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله فى الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثانى فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن فى الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه.

وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى:

مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

«١» فهو ظاهر الآية، لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك فى هذه الملة. وإنما محل الخلاف فى ذلك فى الملل المتقدمة خاصة، وأما فى هذه الملة فنبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم- هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقا، ولا ينبغى أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن فى الخطاب صح ذلك. ونظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٢» وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن


(١) سورة الأنعام: ١٣٠.
(٢) سورة الرحمن: ٢٢.