للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسجد، وكان عليه السلام ممره إذا رجع في المسجد عليهم فقال: من هؤلاء؟ قال:

هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم، قال:

أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو، فأنزل الله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التوبة: ١٠٢] فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم، وعذرهم إلا أبا لبابة لم يرض أن يطلقه إلا النبي صلى الله عليه وسلم بيده ففعل، ولما نزلت توبتهم نادى البشير كعبا فخر ساجدا لله، وقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياه وما شاه ولم يقم إليه أحد ممن كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، فقال له صلى الله عليه وسلم أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك قال النووي: أي سوى يوم إسلامك، وإنما لم ينبه لأنه معلوم لا بد منه.

وفي ترجمة حمزة بن عمر الأسلمي من طبقات ابن سعد، أن حمزة بن عمر هو الذي بشر كعب بن مالك بتوبته وما نزل فيه من القرآن، فنزع كعب ثوبين كانا عليه فكساهما إيّاه قال كعب: والله ما كان لي غيرهما قال فاستعرت ثوبين من أبي قتادة.

يؤخذ من هذه القصة الخلع على المبشر والمنشد، إذا أثر بإنشاده، قال القاضي ابن باديس: كنت بمكة في موسم سنة ٧٥٥ وكان هناك قاضي قضاة الديار المصرية، عز الدين بن عبد العزيز بن القاضي بدر الدين أبي عبد الله محمد بن جماعة، وشيخ القدس الشريف الحافظ صلاح الدين العلائي وجماعة من الفضلاء، فوقعت مسألة لبعض الشيوخ الساكنين بالحرم من المتصوفة نقل عنه قصيد يقول فيه:

فيا ليلة فيها السعادة والمنى ... لقد صغرت في جنبها ليلة القدر

فعقدوا عليه بذلك الشهادة، وأفتى بعض أهل الثغر ممن كان هناك بالتشديد عليه، حتى تجاوز بعضهم إلى ما هو أشد، فأراد قاضي القضاة الإيقاع بالقائل. قال لي الشيخ صلاح الدين: فلم أزل أخفض منه وألتمس وجوه السلامة وأقول للقاضي: لا أحب منك التعرض للمتصوفة، ولا المبادرة فيما لم يتحقق الأمر فيه، واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر بخير يوم مر عليك، ومعلوم أنه مرت عليه ليلة القدر، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير ليلة مرت عليه، لأن الله تاب عليه فيها، فهذه إنما هي بالنسبة لكل شخص وهو مراد القائل اهـ.

إنما استطردت هذه الفائدة هنا ليعلم مقدار تسامح المحدثين والحفاظ في القديم مع الصوفية، ونزوعهم إلى تدعيم شطحاتهم ومبالغتهم من السنة، قال ابن باديس: نهي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلام كعب وصاحبيه دليل وجوب هجران من ظهرت معصيته، أو بدعته ومقاطعتهم، وعدم السلام عليهم إلى أن يقلعوا وتظهر توبتهم تحقيرا لهم وزجرا.

<<  <  ج: ص:  >  >>