للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحكماء قديما تتمادح بقلّتهما، وتذمّ بكثرتهما، لأنّ كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم «١» والحرص، والشّره، وغلبة الشهوة، مسبّب لمضار الدنيا والاخرة، جالب لأدواء الجسد، وخثارة النفس «٢» ، وامتلاء الدماغ. وقلته دليل على القناعة، وملك النفس، وقمع الشهوة، مسبّب للصحة، وصفاء الخاطر، وحدّة الذّهن، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة «٣» والضعف، وعدم الذكاء، والفطنة، مسبّب للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب، وغفلته، وموته. وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ من الأكل والنوم بالأقل، وحضّ عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطنه! حسب ابن ادم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة. فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» «٤» . ولأنّ كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلىء جوف النبي صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ. وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب «٥» . وفي صحيح الحديث: «أما أنا فلا اكل متكئا» «٦» والإتّكاء: هو التّمكن للأكل، والتقعدد في الجلوس له كالمتربّع، وشبهه من تمكّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه. والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعيا «٧» . ويقول: «إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» «٨» وكذلك نومه كان قليلا ومع ذلك فقد قال: «إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» «٩» .

وأما ما الفضل في كثرته فكالجاه وهو محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه


(١) اشتد حرصه على الطعام والنهم أفراط الشهوة
(٢) ثقلها وعدم نشاطها.
(٣) كل مسترذل رديء وكسل النفس.
(٤) رواه الترمذي ابن ماجه والنسائي. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان وقال الترمذي هذا حديث صحيح.
(٥) أنظر جامع الأوصول والحديث الاتي.
(٦) رواه البخاري والترمذي واللفظ له.
(٧) رواه مسلم. المستوفر: المستعجل غير المتمكن في جلوسه. والإقعاء: أن يجلس على اليتيه وينصب إحدى ساقيه.
(٨) رواه البزار عن ابن عمر بسند ضعيف وأبو يعلى وحسن اسناده الهيثمي في مجمع الزوائد.
(٩) رواه الشيخان.

<<  <   >  >>