للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فينزل عليه من القران ما يتلو عليهم منه ذكرا: كقصص الأنبياء، وبدء الخلق، وما في الكتب السابقة، مما صدّقه فيها العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، ولم يؤثر أن واحدا منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحا ولا سقيما من صحفه بعد أن قرّعهم، ووبّخهم بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «١» . ومما يدل على أنّ أهل الكتاب يعلمون صدقه ما تحداهم فيه الله بقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «٢» ثم حتّم عدم إجابتهم بقوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «٣» فما سمع عن أحد منهم أنه تمنّى ذلك، ولو بلسانه، مع أنهم كانوا أحرص الناس على تكذيبه. ومثل ذلك ما فعله أهل نجران حينما دعاهم للمباهلة «٤» فأبوا، وقد قدّمنا ذلك في فصل وفودهم.

ومما يدل على أن هذا القران ليس من كلام البشر: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوّة حاله، وإنافة «٥» خطره؛ وهي على المكاذبين به أعظم، حتى كانوا يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفورا. ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم:

«إن القران صعب مستصعب على من كرهه، وهو الحكم» «٦» . وأما المؤمن فلا تزال روعته به، وهيبته إياه مع تلاوته، توليه انجذابا، وتكسبه هشاشة «٧» لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «٨» وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «٩» .


(١) سورة ال عمران اية ٩٣.
(٢) سورة البقرة اية ٩٤.
(٣) سورة البقرة اية ٩٥.
(٤) الملاعنة.
(٥) أي علو مرتبته.
(٦) رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير صعب: في نفسه بمعنى أنه لا يقدر أحد على محاكاته وضبط الفاظه بسهولة مستصعب: أي يعسر فهمه بالرأي ولا يمكن تغييره وتحريفه (الحكم) أي الحاكم الفاصل بين الحق والباطل.
(٧) أي مسرة وخفة.
(٨) سورة الزمر اية ٢٣.
(٩) سورة الحشر اية ٢١.

<<  <   >  >>