للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أولع بعض المؤرّخين بحكاية يجعلونها سببا في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلّم فيها كلاما حسنا عن الهتهم حيث قال بعد أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «١» تلك الغرانيق «جمع غرنوق وهي الطيور ويراد بها الملائكة» «٢» العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، فسجدوا إعظاما لذلك وفرحا. وهذا ممّا لا تجوز روايته إلّا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته. وها نحن أولاء نسوق لك أدلّة النقل والعقل على بطلان ما ذكر. أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفاء: لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسند سليم «٣» ، وأمّا المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحا أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فالكلام غير منتظم. ولو كان ذلك قد حصل لاتّخذه الكفار عليه حجّة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم


(١) اية ١٩- ٢٠.
(٢) المراد بالغرانيق: الأصنام وهي في الأصل: الذكور من طير الماء وقد شبهوا أصنامهم بالغرانيق وهي الطيور التي تعلو في السماء وترتفع. وكيف يسجد محمد لصنم، ويثني على صنم، ويفتري على الله الكذب؟ أيخفى على محمد- وقد هداه القران- حقيقة الكفر وألفاظ الكفر ويعبث الشيطان به؟ .. وقد عصمه الله عن كل هذه الترهات.
(٣) سئل محمد بن اسحق بن خزيمة عن هذه القصة فقال هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. قال القاضي أبو بكر بن العلاء المالكي: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب روآياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته بعد ما أتى باختلاف الروايات ثم قال ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين ولم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيها حديث شعبة عن أبي بشر من سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فيما أحسب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بمكة وذكر القصة. قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبه إلا أمين بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه- وأما حديث الكلبي فمما لا يجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار. ويقول الرازي في تفسيره: هذه القصة باطلة وموضوعة ولا يجوز القول بهما. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.

<<  <   >  >>