للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العصر الأول، وإنه من المعجزات، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا: أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها واتساع حال أهلها، قال: وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها للعوافي «١» ، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها.

وحكى البدر ابن فرحون في شرح الموطأ، ومن خطه نقلت، عن القاضي أيضا أنه قال: وقد حكى قوم كثيرون أنهم رأوا ما أنذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من تغذية الكلاب على سواري مسجدها، انتهى.

وقال النووي: الظاهر المختار أن الترك للمدينة يكون آخر الزمان عند قيام الساعة، ويوضحه قصة الراعيين من مزينة، فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة، ولفظ مسلم واضح في ذلك؛ فإنه قال «ثم يحشر راعيان» ويؤيده كونها آخر قرى الإسلام خرابا.

قلت: ويؤيده رواية ابن شبة المتقدمة «ليدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي» وهذا لم يقع اتفاقا، على أنه ورد ما يقتضي أن الترك للمدينة يكون متعددا، فلعل ما ذكره القاضي هو المرة الأولى، وبقي الترك الذي يكون آخر الزمان؛ لأن ابن شبة روى حديث «ليخرجن أهل المدينة من المدينة، ثم ليعودن إليها، ثم ليخرجن منها، ثم لا يعودون إليهما، وليدعنها وهي خير ما يكون مونعة «٢» » .

وروي أيضا عن عمر مرفوعا «يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إلها فيعمرونها حتى تمتلئ وتبني، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا» .

وروى ابن شبة عن أبي هريرة قال: «آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس» .

وروي أيضا عن حذيفة بن أسيد قال: «آخر الناس محضرا رجلان من مزينة يفقدان الناس، فيقول أحدهما لصاحبه: قد فقدنا الناس منذ حين، انطلق بنا إلى شخص من بني فلان، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى منزل قريش ببقيع الغرقد، فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب، فيوجهان نحو البيت الحرام» .


(١) العواف: ما يظفر به الإنسان والحيوان ليلا من صيد ونحوه.
(٢) المونعة: الثمرة الناضجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>