للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَابَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ فَقُتِلَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ، وَكُسِرَتْ تِلْكَ الرُّءُوسُ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ:

أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا يَكْذِبُ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي بَابِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أنه عليه السلام جَعَلَ يُشِيرُ لِأَصْحَابِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ إِلَى مَصَارِعِ الْقَتْلَى، فَمَا تَعَدَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى:

الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ٣٠: ١- ٦ وَهَذَا الْوَعْدُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ، وَاغْتَمَّ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَجُوسِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ الْفُرْسَ بعد هذه المدة بسبع سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مُرَاهِنَةِ الصِّدِّيقِ رُءُوسَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، مَا هُوَ مَشْهُورٌ كَمَا قَرَّرْنَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ بَعْدَ غَلَبَهِمْ غَلَبًا عظيما جدا، وقصتهم في ذلك يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَقَالَ تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ٤١: ٥٣ وَكَذَلِكَ وَقَعَ، أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَفِي الْآفَاقِ بِمَا أَوْقَعَهُ مِنَ النَّاسِ بِأَعْدَاءِ النُّبُوَّةِ، وَمُخَالِفِي الشَّرْعِ مِمَّنْ كَذَّبَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، مَا دَلَّ ذَوِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ صِدْقٌ، وَقَدْ أوقع لَهُ فِي صُدُورِ أَعْدَائِهِ وَقُلُوبِهِمْ رُعْبًا وَمَهَابَةً وَخَوْفًا، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَهَذَا مِنَ التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ عَدُوُّهُ يَخَافُهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَقِيلَ:

كَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى غَزْوِ قَوْمٍ أُرْعِبُوا قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِمْ، وَوُرُودِهِ عَلَيْهِمْ بِشَهْرٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين.

[فصل]

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى إِخْبَارِهِ بِمَا وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي قِصَّةِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي تَعَاقَدَتْ فِيهَا بُطُونُ قُرَيْشٍ، وَتَمَالَئُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمَطْلَبِ أَنْ لَا يُؤْوُوهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، بِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ أَنِفِينَ لِذَلِكَ مُمْتَنِعِينَ مِنْهُ أَبَدًا، مَا بَقُوا دَائِمًا، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا، وَفِي ذَلِكَ عَمِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>