للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمْ تَزَلِ السُّعَاةُ وَالْوُشَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا سَعَوْا بِهِ إِلَيْهِ دخل إليه فأصلح أمره معه، حَتَّى وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَأَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسٍ عَظِيمٍ قَدْ فُرِشَ بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ وَأَلْوَانِ الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مُزْهِرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْأَزَاهِيرِ، فَقَالَ:

يَا يَعْقُوبُ كَيْفَ رَأَيْتَ مَجْلِسَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ما رأيت أَحْسَنَ مِنْهُ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَتِمَّ بِهَا سُرُورُكَ، وَلِي إِلَيْكَ حاجة أحب أن تقضبها. قلت: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: حَتَّى تقول نعم. فقلت: نعم! وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ. فَقَالَ! آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ.

قَالَ: وَحَيَاةُ رَأْسِي قُلْتُ وَحَيَاةُ رَأْسِكَ. فَقَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي وَقُلْ ذَلِكَ، فَفَعَلْتُ. فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ أُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَعَجَّلَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنْزِلِي وَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَمَا فَرِحْتُ بشيء فرحي بها. فلما صارت بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فَأَمَرْتُ بِذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَجِيءَ بِهِ فَجَلَسَ إِلَيَّ فَتَكَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ وَلَا أَفْهَمَ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي وَأَنَا رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

فَقُلْتُ: لا والله ولكن اذهب حيث شئت وأين شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي أَخْتَارُ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا. فَقُلْتُ:

اذْهَبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكَ الْمَهْدِيُّ فَتَهْلِكُ وَأَهْلِكُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي وَجَهَّزْتُ مَعَهُ رَجُلَيْنِ يُسَفِّرَانِهِ وَيُوَصِّلَانِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ أَحَاطَتْ عِلْمًا بِمَا جرى، وأنها كالجاسوس على، فبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك الْعَلَوِيَّ فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلويّ بشيء، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَا فَعَلَ الْعَلَوِيُّ؟ قُلْتُ: مَاتَ. قَالَ: آللَّهِ! قُلْتُ آللَّهِ.

قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي وَاحْلِفْ بِحَيَاتِهِ، فَفَعَلْتُ. فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَخَرَجَ الْعَلَوِيُّ فَأُسْقِطَ فِي يَدِي، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: دَمُكَ لِي حَلَالٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ فِي الْمُطْبِقِ. قَالَ يَعْقُوبُ: فَكُنْتُ فِي مَكَانٍ لَا أَسْمَعُ فِيهِ وَلَا أُبْصِرُ، فَذَهَبَ بَصَرِي وَطَالَ شَعْرِي حَتَّى صِرْتُ مِثْلَ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ مَضَتْ عَلَيَّ مُدَدٌ مُتَطَاوِلَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دُعِيتُ فَخَرَجْتُ من البئر فَقِيلَ لِي: سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَسَلَّمْتُ وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ. فَقُلْتُ:

الْهَادِي؟ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي. فَقُلْتُ: الرَّشِيدُ؟ قَالَ نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَأَيْتَ مَا حَلَّ بِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أن تطلقني. فقال: أين تريد؟ قُلْتُ: مَكَّةُ، فَقَالَ: اذْهَبْ رَاشِدًا، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَا لَبِثَ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا يَعِظُ الْمَهْدِيَّ فِي تَعَاطِيهِ شُرْبَ النَّبِيذِ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان

<<  <  ج: ص:  >  >>