للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمرا إلا بمشاورة والدته الخيزران. فكانت هي المشاورة في الأمور كلها، فتبرم وتحل وتمضى وتحكم.

وفيها أمر الرشيد بسهم ذوى القربى أن يقسم بين بَنِي هَاشِمٍ عَلَى السَّوَاءِ. وَفِيهَا تَتَبَّعَ الرَّشِيدُ خَلْقًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً. وفيها خرج عليه بعض أهل البيت. وفيها ولد الأمين محمد بن الرشيد ابن زُبَيْدَةَ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِيهَا كَمُلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرَجٍ الْخَادِمِ التُّرْكِيِّ وَنَزَلَهَا النَّاسُ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالا كثيرة، وَيُقَالُ إِنَّهُ غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ رَزِينٍ الشَّاعِرُ: -

بِهَارُونَ لَاحَ النُّورُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... وَقَامَ بِهِ فِي عَدْلِ سِيرَتِهِ النَّهْجُ

إِمَامٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَصْبَحَ شُغْلُهُ ... وَأَكْثَرُ مَا يُعْنَى بِهِ الْغَزْوُ وَالْحَجُّ

تَضِيقُ عُيُونُ النَّاسِ عَنْ نُورِ وَجْهِهِ ... إِذَا مَا بَدَا لِلنَّاسِ مَنْظَرُهُ الْبَلْجُ

وإن أمين الله هارون ذا الندا ... يُنِيلُ الَّذِي يَرْجُوهُ أَضْعَافَ مَا يَرْجُو

وَغَزَا الصائفة فيها سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ

الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الفراهيدى، ويقال الفرهودى الأزدي، شَيْخُ النُّحَاةِ، وَعَنْهُ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَرَعَ عِلْمَ الْعَرُوضِ. قَسَّمَهُ إِلَى خَمْسِ دَوَائِرَ وَفَرَّعَهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بَحْرًا، وَزَادَ الْأَخْفَشُ فِيهِ بَحْرًا آخَرَ وَهُوَ الْخَبَبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: -

قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى صَحِيحًا ... مِنْ قَبْلُ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ

وَقَدْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِعِلْمِ النَّغَمِ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ أَيْضًا، وَلَهُ كِتَابُ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ، ابْتَدَأَهُ وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل، كَمُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ، وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ. فَلَمْ يناسبوا ما وضعه الخليل. وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فِيهِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْخَلَلِ فَأَفَادَ. وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا، وكان متقللا من الدنيا جدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُ هَمِّي مَا وَرَاءَ بَابِي، وَكَانَ ظَرِيفًا حَسَنَ الْخُلُقِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: كَيْفَ تُقَطِّعُ هَذَا الْبَيْتَ؟

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

فَشَرَعَ مَعِي فِي تَقْطِيعِهِ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَضَ مِنْ عِنْدِي فَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مَا أشرت

<<  <  ج: ص:  >  >>